شيراك يوقف الجدل برفض قانون التوظيف الفرنسي الجديد
انتهت الأزمة الفرنسية الناجمة عن التشريع الجديد الذي قدمته الحكومة والخاص بعقود الموظفين الجدد، بعد أن رفضه الرئيس جاك شيراك. ولم تكن الاحتجاجات من الشارع الفرنسي والشباب تحديداً وإنما من الشركات أيضا، حيث إن رابطة الشركات "ميديف" Medef، عملت قبل رفض القانون على تهدئة الأوضاع المضطربة عن طريق تشكيل حل وسط بالاتفاق مع المجتمعات المهنية، وطالبت الرابطة بالاتفاق مع الحكومة بعدم استخدام عقود العمل الجديدة مع أي من الموظفين الناشئين.
أما ما كان يخشاه عدد من رجال الأعمال، فهو أن تبقى إجراءات التسريح المتثاقلة في فرنسا عقبة في طريق التوظيف نظراً للتغيرات الطفيفة.
وكانت كثرة المنازعات أمام المحاكم هي السبب وراء إصرار الحكومة على وضع عقود العمل الجديدة، لكن التشريع الجديد لم يتحقق بسلام مع استمرار المظاهرات. وقبل أن يرفض الرئيس شيراك القانون المثير للجدل، أعلنت الحكومة وبعض الشركات مباشرةً عن استعداداها للتخلي عن الكثير مما ورد في ذاك التشريع أصلاً.
وكان الشلل قد أصاب مناطق في فرنسا خلال الأسبوع الماضي بسبب الاستجابة الواسعة لنداء الإضراب الذي دعت إليه نقابات العمال واتحادات الطلبة، احتجاجا على قانون التوظيف الجديد الذي يسهل عمليات تسريح العمال خلال العامين الأولين من فترة العمل. وظهر الشباب غاضبون من الجيل الذي سبقهم، يعتريهم خوف شديد من أن ينتقل إليهم إرث يفوق قدرتهم على الاحتمال من تضاؤل فرص العمل وارتفاع مديونية الحكومة بسبب النفقات الاستهلاكية غير الاستثمارية والأجور التقاعدية وتقلص تمويل التأمين الصحي في البلاد.
ورغم أن كل هذه الاتهامات صحيحة، إلا أن الشباب أنفسهم لم يكن في أيديهم الحل، فهم لا ينظرون إلى المستقبل بنظرة تحمل اتساعا لمساحة القطاع الخاص في مقابل تقليص الالتزامات الحكومية، في مجتمع لا يزال فيه مواطن من كل خمسة يعمل لدى القطاع الحكومي، أي بنسبة 20 في المائة من إجمالي السكان.
وجاء في دراسة أجرتها إحدى الجامعات الأمريكية حول الموضوع، أن نحو 36 في المائة فقط من المواطنين الفرنسيين يرون أن اقتصاد السوق هو النظام الأفضل للمستقبل، بينما تبلغ النسبة نحو 65 في المائة في ألمانيا، 71 في المائة في أمريكا، و74 في المائة في الصين.
ويُعد التعليم أحد أسباب الحياة المهنية الناجحة. وفي الحقيقة ينتقد الشباب الفرنسي النظام التعليمي في بلادهم لأنه يبتعد عن متطلبات الوضع الاقتصادي الفعلية، حيث توجد في الوقت الراهن نحو 300 ألف فرصة عمل شاغرة في فرنسا، وخاصةً في مجالات: العمل الفندقي، المطابخ، البناء، الحرف اليدوية، وفي قطاع الصحة. ولا يُعزى هذا، كما هي الحال في باقي الدول الأخرى، إلى زيادة الطلب على الوظيفة، ولكن هناك في فرنسا الرفض الخاص للعمل اليدوي المرتبط بالمهن التدريبية. وحسب ما ورد عن أحد الآباء أثناء المظاهرات الأخيرة: "هل يُفترض أن أترك ولدي يعمل سباكا بينما يجد نفسه متحمساً لدراسة الآداب؟".
لقد فرضت الحكومات الفرنسية المتعاقبة اختبار التخرّج من المرحلة الجامعية كهدف أسمى دون أن تطرح البدائل الموازية، وعليه فقد أصبحت الشهادات الدراسية الأخرى الأدنى من الشهادة الجامعية تمثل وصمة عار لحاملها. وفي المقابل يتدفق على سوق العمل الفرنسية نحو 150 ألف من الشباب، أي 20 في المائة، دون شهادة نهائية، وليس لهم وجود سوى على قوائم إحصاءات العاطلين عن العمل غالباً.
وينقص فرنسا بالفعل نظام شعبي مزدوج، بحيث يمهّد الطريق للموظّف المتخصص عن طريق المزج بين التجربة والنظرية، ويتضمّن ضرورة التعليم المستمر طوال الحياة نظراً للتقنيات المتغيّرة باستمرار. ويوجد في الوقت الراهن في فرنسا 365 ألف عقد تعليمي تدريبي فقط، بينما تبلغ النسبة في ألمانيا نحو 1.6 مليون. وفشلت مبادرات الحكومات الفرنسية المتغيّرة في جعل المهن التعليمية أكثر جذباً، وأسهم في تلك النسبة نقص استعداد الشركات في استثمار التعليم المهيكل للفئات الشبابية.
ويتقدم نحو 70 في المائة من الفئات العمرية الشابة في فرنسا اليوم لشهادة البكالوريا التي تعادل الثانوية العامة، بينما بلغ حجمهم عام 1982 نحو 35 في المائة فقط. ولا يمكن انتقاد هذا، عندما يفتح هذا الباب على منظور مهني عن طريق شهادات تخرّج أفضل. ويثبت هذا تجريبياً القدرة على تحقيق نمو اقتصادي أعلى عن طريق التعليم الجيد. وعلى ما يبدو أن خريجي البكالوريا الفرنسيين في المجالات النظرية يُعدّون في الغالب غير جذابين بما فيه الكفاية لأرباب العمل.
وبناءً على معطيات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، يلتحق عقب مرحلة البكالوريا نحو 39 في المائة فقط بالدراسة الجامعية، بينما تسجّل تلك النسبة في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي الثلاثين في المعدل نحو 53 في المائة. وإضافة إلى هذا، الكثير منهم لا يستمر، حيث يحصل نحو 59 في المائة من الطلاب الفرنسيين, عقب ثلاثة أعوام من الدراسة في الجامعة على الشهادة الأولى، ومن ثم الرخصة العلمية، والباقي يتوقف عن الدراسة. وحتى من يتمكّن من الحصول على الشهادة ليس بالضرورة أن يكون جديراً بها. وتخرّج الجامعات الفرنسية الكثير من الخريجين ضمن مسارات تخصص يصعب إيجاد مساحة لها في سوق العمل، مثل علم النفس والرياضيات.
وبالفعل تشكو الجامعات والكليات من التنظيم المالي الهزيل، حيث تعطي فرنسا بالمعدل أحد طلاب الثانوية القدر نفسه من المال الذي تعطيه أي طالب؛ بينما تحظى أغلب الجامعات في الدول الأخرى بقدر أكبر من الدعم المالي.
لقد فشلت الكثير من خطط إعادة الهيكلة في فرنسا ضمن أجهزة الإدارة أو التعليم المهني المنظّم، حتى ضمن المستويات المرموقة التي تقترح تحوّلاً في الطريق، وهي نادراً ما تحرّض الطلاب ضد خطط إعادة الهيكلة، والتي عن طريقها من الممكن أن تقوم مظاهرات مؤثّرة إعلامياً. ولهذا تراجعت الحكومة العام الماضي عن مشروع منح الطلاب مسؤولية خاصة لدى اختيار محتوى البكالوريا نظراً للمظاهرات. ونادراً ما نجحت الشركات في إقحام نفسها داخل جدران عالم بيروقراطية التعليم، وهذا ما يظهر نقص التجربة العملية من المدارس والجامعات نفسها.
وتخضع الشركات إلى حوافز غير عادلة، حتى إذا أرادت أن تشارك في المحاضرات أو تعرض منظوراً مهنياً فقط. وتحبس مشاركة قرار الوالدين الأساتذة وإداريي المدارس ضمن أطر ضيقة، لأنهم لا يريدون التخلي عن العادات القديمة.