" المدينة سبقت المثقف بمراحل كبيرة"
الخروج إلى كورنيش جدة يبدو عادياً في السياق الاجتماعي للتنفيس، لكن الرصيف الموازي للبحر أكثر من مشروع تنفيس، حيث تقف المنحوتات التي استوردها الفارسي لجدة قبل نحو ربع قرن من الآن، المنحوتات التي تنظر إلى البحر وكأنها تبرهن ألا تنافر في الجامد والسائل سوى تلك الرؤية المتحركة في أحدهما وسكون الآخر، وحين تسير متتبعاً الأعمال التي كان من أكثرها حظاً أعمال الفنان هنري مور، وهو من أشهر نحاتي منتصف هذا القرن، حيث خلقت أعماله تلك (الكتل البرونزية المليئة بالإغراء المستوحاة من الجسم البشري) كما يقول بيتر بلاغنز.
حين تجد أعمال هنري مور على شاطئ البحر، وتحديداً قبل عشرين سنة من الآن وحتى الآن، هذا يوجهنا إلى نتيجة مهمة في السياق الثقافي المحلي، وهو ما يعبر به الشاعر عيد الخميسي بأن (المدينة سبقت المثقف بمراحل كبيرة)، هذه السرعة في القفز على كل خطابات الثقافة المتوقفة، وأسئلتها الدائبة في النكوص، ومجاوزة الحسي والعملي إلى النظري التأطيري المجرد، تبرهن لنا كم هو فائق سباق المدينة والإنسان، ويسوء الأمر حين لا يكون هذا الخطاب الحضاري موزاياً مع عمل المثقف بل مجاوزاً له.
هنري سيحسب لك خطواتك من جديد، لن يكون عليك المشي بسرعة كما كنت تفعل حين تمر بكورنيش جدة، هذه المرة ستتوقف، وستبدأ بعد الخطوات التي ستقضيها سائراً لكل منحوتة من منحوتات هنري، وبما أن الصورة أول فاعل مع باقي الحواس، فإن هنري سيقلب هذه الآية حيث ستتعدد الصور، وستبقى الحواس أسيرة لدهشة النحت ثم بعد ذلك دهشة التحليل، ستغلط أكثر من مرة في إيجاد النقطة التي تنطلق منها إلى العمل، فالشكل العرضي يوحي لك بذلك الإغواء الإنساني المتجسد في الجسد المنحوت، ينقلب هذا الإغواء إلى حالة أخرى أقرب إلى الخرافة والامتداد الحكائي لمفردات الخوف الشعبية أو العالمية كالـ(السعلوة، البعبع، أو تلك الأجساد المنتصفة بين الإنسان ومخلوقات أخرى حيوانية)، ما يلبث هذا أن ينصهر في روح كتلية متصلبة، تبدأ أنت بفك شفراتها المعقدة، حيث يعطي العمل الواحد أكثر من سياق بصري يجري بسرعة محركاً الإرث الدفين في تسمية الأشكال، وحين تقف الأسماء عاجزة، يبدأ الخيال لعبته فيفعل بنا كما يفعل الأطفال حين النظر إلى الغيوم، فهذا رسم ثورا، وهذا رسم قوسا، وهذا رسم دراجة، يتحطم كل هذا أمام البغية الحقيقية للفنان، حيث تبدأ بإعادة زاوية النظر، وحتى الوصول إلى النتيجة النهائية من الانطباع النحتي.
أمام كل منحوتة من أعمال هنري تتراجع وتقول ما قاله نيتشة ( ياللهول ما هذا؟ ألا يتقهقر. أجل! لكنكم تسيؤون فهمه إذ تشتكون..إنه يتراجع ككل من يستعد لوثبة كبيرة). هذا الصعود اللا متناهي في الجمال النحتي يصيبنا بمساءلة الذات الثقافية وكيفية ملاحقتها لهذا التطور الفني في الأشياء، وانطلاق هذه الماديات المصنوعة من عجين الروح، إلى أثيريات روحية، تجعلنا نصل إلى أقصى مراحل النمو البصري، التأملي، العقلي، التحليلي، ومن ثم في النتاج كخطاب ثقافي تنظيري أو إلى صبغة حبرية شعراً، رواية، قصة، مسرحاً، يقول بول ريكور عن هذه اللذة: (إن تناهي اللذة هو بعض الشيء شر مهيمن، بحيث إن النقد العاطفي الذي يظهر السعادة كامتداد له، ليس فقط نفي اللذة، بل استئنافها وتأكيدها).
هنري مور واحد من آلاف الأشياء التي سبقت المثقف وأزماته، لذا هو مدعاة للتشريح الثقافي بكل ألوانه المحلية، ومن ثم إعادة صياغة النتائج وفقاً لهذه الموازاة بين إفرازات المدنية وبين الخطاب الثقافي، هنري مور كان حافياً في كورنيش ماداً ذراعيه للريح، يستقبل أولئك الذين يعرفونه جيداً، والذين لم يعرفوه لكن وجدوا ذواتهم فيه، غير مكترث بتلك الكتابات التي طالت منحوتاته(حارة الموت، أبو هاجوس..)، معيداً للأسئلة صياغاتها الابتدائية.