الحلم الصغير وجدار من طين وحصير

الحلم الصغير وجدار من طين وحصير

رحم الله أجدادنا كانوا أكثر قناعة وأكثر تأقلما مع ظروفهم الاقتصادية، ومن بيت الشعر إلى بيت الطين والحجر والأكواخ والعشش، كل ما توفره الطبيعة من خيارات يمكن له أن يصبح منزلا، وكل منطقة في الوطن تجد فيها المنازل امتدادا لطبيعة وبيئة المنطقة، حتى عندما أتت تقنيات الزنك أو ما يسمى (الصفيح) كانت مناسبة للظروف المادية وبداية عصر جديد من مفهوم التطور، وربما كان من يملك بيتا من الزنك يعيب على صاحب الخيمة منزله.

وفي إطار الحديث عن المنازل، فنحن نتحدث عما يسمى الآن العقار.

العقار أصبح أزمة فعلية، ليس لذلك علاقة بالأزمة العالمية، بل هو أزمة من قبل ذلك بكثير، بداية من الأرض التي يبنى عليها المنزل وينتظرها أحدهم كمنحة أو يجمع نصف عمره ثمنا لها ليدفع النصف الآخر بناء فوقها ومن ثم ما تبقى من أيام قليلة في عمره هي ثمن تفاصيل الأثاث.

وما يدفعني للحديث عن العقار موقفان متتاليان أشعلا في نفسي الفضول الاقتصادي و''اللقافة'' الكلامية للحديث في هذا المجال، والاقتصاد الفعلي الذي يفهمه الجميع هو (كيف نعيش) وكل ما يأتي تحت هذا العنوان هو اقتصاد، لذلك فكل الناس قادرون على أن يكونوا اقتصاديين، وأهم ما يمكن للناس التفكير فيه هو سقف وجدار يستظلون تحته في أي مكان.

أحد المواقف هو رسالة وصلتني عن شركة حديثة بدأت أخيرا استيراد منازل جاهزة يمكن تركيبها بسهولة، وهذه الشركة توفر عدة خيارات، هي منازل ماليزية وأخرى صينية وكذلك الألمانية، تستخدم تقنيات بناء بسيطة وحديثة ورخيصة وحدود الأسعار تبدأ من 150 ألف ريال إلى 500 ألف ريال.

وهذا نصر جديد للعقار بمعناه الحقيقي في سوق العقار.

لأن من يتحدث عن التطوير العقاري لم يكن يعرض خيارات مثل هذه تقلل من التكاليف الكبيرة اللازمة للحصول على سكن، الجميع يقدم حلولا عن كيف نحصل على القروض الكبيرة بتسهيلات كبيرة وأقساط مريحة، ولم يحاول أحد منهم حتى الآن أن يقدم خططا ومشاريع تطوير لتقليل تكاليف بناء المنازل أو طرح خيارات هندسية ومعمارية، فأنت تريد مليونا من أجل منزل كان يكلف سابقا 500 ألف ريال، وما لا يقل عن 500 في أحسن الأحوال من أجل منزل يموله القرض الحكومي العقاري 300 ألف ريال.

هذه هي خطط التنمية العقارية لدينا، كيف توفر للناس خيارات مالية فقط وليست عقارية بالمعنى العقاري المفترض، ومن المفترض أن يكونوا أكثر صدقا ويسمونها حلولا مالية.

ومن تلك الحلول المفقودة في العقلية العقارية لدى مستثمرينا هي الموقف الثاني، حين وقفت على حفرة عميقة تكاد تكفي لبناء ناطحة سحاب من أجل بناء عمارة بطابقين فقط، وكيف أن هناك عمالة وافدة تعمل في البناء كانت تقول هذا (حرام) يكفي حفر بسيطة لتكوين الأساسات، ولا يحتاج مثل هذه الحفرة الواسعة وما تحتاج إليه من خرسانة وأعمدة وعوارض أساسية، من أجل منزل لا يتجاوز الطابقين، ومع ذلك أصبح الأمر عادة، وما فعله أول شخص شيد منزلا بهذه الطريقة سوف يقلده الجميع لأنه لا خيارات أخرى، والذي تعرفه أحسن من الذي لا تعرفه.

حتى أن البلديات أصبحت تساعد على أن تعمم هذه الطرق في البناء، ولا أحد يفكر فعليا في التفاصيل الهندسية، والحاجات الأساسية لبناء منزل بسيط يكفي عائلة صغيرة؛ تحولنا بقدرة قادر إلى أغبياء ينساقون في النظام الهندسي الوحيد المتوافر لدينا، لبناء عقاراتنا، ونسينا قدراتنا على جعل الطبيعة والبيئة مشاركة في تقرير طرق البناء.

اليوم تأتي الحلول من الخارج من ماليزيا ومن الصين وألمانيا، ومهندسونا ما زالوا يتفننون في كيف يكون الحديد أكثر في الأعمدة وكيف يجعل البلوك الخرساني أكثر شدا لدرجة أنه يمكن له أن يحل مكان الأعمدة، ولكن لا أحد يتحدث بهذه الطريقة، الكل يتحدث عن العقار بطريقة العروض المالية، لا يهم كيف تبني منزلك، نعرف أنك ستبني ككل الآخرين في هذا الوطن، وهذا ما يقدر بنصف مليون على أقل تقدير، لذلك هم يفكرون كيف يوفرون لنا نصف المليون هذا، لو أردت أن تبني منها غرفة واحدة من الحديد كخزانة بنك أو تحفر بها وتبني أساسا يكفي لبناء سور الصين العظيم مرة أخرى وليس حوش استراحة.

هذا هو مفهوم التطوير العقاري لدينا، المال فقط والخيارات المالية. فلماذا يقولون تطوير وتنمية عقارية؟!

من يشك في أن بيت الطين يستطيع أن يدوم أكثر من 20 سنة فليذهب إلى أقرب قرية منه وينظر إلى بيوت الطين هناك، كيف أنها ما زالت قادرة على التحمل والوقوف، ويفكر كم من الحديد والخرسانة فيها، ولماذا لم تقع على رؤوس أهلها، ومن ثم يحاول التفكير في الحصول على منزل من الرغوة والأخشاب الماليزية أو الصينية.

وهذه هي بالفعل حلول عقارية وتنمية عقارية. ولعل هذا يحقق لنا الحلم الصغير بالحصول على جدار من طين وحصير وبعبارة أخرى عقار).

عدد القراءات:363

* "هذه المادة منتقاة من "الاقتصادية الإلكترونية" تم نشرها اليوم في النسخة الورقية"

الأكثر قراءة