تحديد النسل أو تنظيمه بين الرؤية الشرعية والفهم الخاطئ

تحديد النسل أو تنظيمه بين الرؤية الشرعية والفهم الخاطئ

خلط بعض الناس بين تحديد النسل وتنظيمه ومن هنا أوضح الدين الإسلامي أين يكمن السلوك الخاطئ لبعض الناس في جانب تحديد النسل المخالف للشرع، فيما جاء الإسلام ليعطي فرصة تحديد النسل للأسرة المسلمة، وفق أسس لا تتعارض مع الإسلام، ومن هنا كان التوضيح الشرعي لهذا الجانب مهما مع الرأي الطبي الذي يأتي ليلقي الضوء على الفرق بين التحديد والتنظيم للنسل.
يأتي طرح هذا الموضوع لاختلاط المفهوم لدى الناس، خصوصا وأنه سلوك أسري متعارف عليه يحتاج إلى الكثير من الإيضاح المهم للمجتمع المسلم, تحدث حول ذلك عدد من المختصين، وفي البداية تحدث الشيخ خالد الشايع المستشار الشرعي في مستشفى الأمل في الرياض فقال إن الدعوة لتحديد النسل سلوك لا يقره الإسلام.
والرد على من يراه بسبب الجانب الاقتصادي يأتي من وجهين، الأول وهو الأساس: أن الله تعالى قد تكفَّل بمعايش الخلق أجمعين، فقال سبحانه: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" (سورة هود 6)، فأخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريِّها وبريِّها.
بل إن الله سبحانه قد ردَّ على جميع الطوائف التي تحمل فكرة التشكيك في الأرزاق ومدى كفايتها للأجيال اللاحقة، فقال سبحانه في سورة الأنعام: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم"، ومعنى من إملاق أي لا تقتلوهم بسبب فقركم الحاصل، وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود سأل رسول صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نِدَّاً وهو خَلَقَك" قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" الحديث.
(وقال في سورة الإسراء "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق"، أي لا تقتلوهم خوفاً من الفقر، (وفي المقطع التالي من الآية يقول سبحانه: "نحن نرزقهم وإياكم" فبدأ برزقهم للاهتمام بهم فلا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله. وأما نرزقكم وإياهم نقلته عن نحن في آية الأنعام فلما كان الفقر حاصلاً قال: ابن كثير ملخصاً لأنه الأهم في السياق، والله أعلم.
أما الوجه الثاني وهو فرعٌ عن الأول: فإن المتبصرين الحاذقين في علم الاقتصاد يعلمون علم اليقين أن كثرة العدد لها أثرها الكبير في وفرة الإنتاج وكثرة البناء في شتى الميادين، بل إنَّ الفرصة تكون أكبر لوجود النابغين والموهوبين، لكن المشكلة إنما تنجم عن سوء التخطيط وفساد التدبير.
التكثير هو الأساس ويبين أنه يجدر التأكيد على أن الدعوة لتكثير النسل هي الأساس وهي الأصل، كما دلَّ عليه النصوص الشرعية والنظر الصحيح، لكن ثمة تنبيهات:
الأول: ضرورة رعاية النسل بتعليمه وتثقيفه وتربيته على معالي الأخلاق ومحاسن الشيم، والسعي الحثيث للكسب والإنتاج والعمل، فإن مشكلات الشعوب الإسلامية اليوم، وخصوصاً من يزعم أنها تعاني كثرةً في عَددها وشُّحَاً في مواردها ومجالات العمل فيها، تلك المشكلات لم تنجم عن كثرة العدد، بل إن كثرة عددهم مؤهِلةٌ لقوَّتهم وتقدمهم ومزيد إنتاجهم وتكاملهم واكتفائهم الذاتي، لكن مشكلتهم نجمت عن أنواع من الفساد الإداري وسوء التخطيط الاقتصادي.
من جهته، أوضح الشيخ أحمد السيف إمام وخطيب جامع الإمام أحمد بن حنبل في الرياض أن الدعوة لتحديد النسل هي من الأفكار التي تأثر بها المسلمون خصوصا الذين يحتجون أن كثرة النسل يثقل كاهل الأسرة وأنه يسبب تزاحما سكانيا ولا يستطيع رب الأسرة أن يوفر لهم المعيشة والرزق وهذا يتنافى تماما مع قول الله تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون"، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق وهو الذي يقدر لعباده أرزاقهم قبل خلقهم ويعلم غيب السموات والأرض قال تعالى: "وكل شيء عنده بمقدار" كما وردت آيات صريحة تنكر على أهل الجاهلية الذين كانوا يقتلون أولادهم لخشيتهم من الفقر وما إلى ذلك يقول سبحانه وتعالى: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم" والمبررات التي يسوقها أعداء الإسلام ومن تبع نهجهم ليست صحيحة لأنها تناقض ما ورد في الكتاب والسنة، وأنقل هنا كلاما حول تحديد النسل لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية سابقا رحمه الله يقول فيها "إن الله تعالى قد تكفل برزق عباده مصداقا لقوله تعالى: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها". ويضيف سماحته إننا ندين لله تعالى بهذا وما قيل حول تحديد النسل يناقض هذا ويخالفه ويتعارض مع مدلول الأحاديث المرغبة في التزوج بالودود الولود، ومع مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته الأمم يوم القيامة فينبغي الوقوف عند أوامر الله ورسوله، والإيمان الكامل بأن رزق العباد على ربهم, نسأل الله تعالى أن يعز دينه ويعلي كلمته وبالله التوفيق". إلى هنا انتهى كلام الشيخ رحمه الله، لذلك فإن أي دعوة لهذا التحديد تعتبر دعوة مشبوهة يبثها الأعداء بين المسلمين ليتأثروا بها.

الولادة والهلاك
من جهته، بيّن فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء سابقا في فتوى له حول العلاج لقطع الحمل أو إيقافه ومتى يكون بقوله إن هذا الأمر لا يكون إلا عند الضرورة عندما يقرر الأطباء المعتبرون أن الولادة تسبب إرهاقا أو تزيد في المرض أو يخاف من الحمل والوضع الهلاك خوفا غالبا ولا بد من ذلك من رضا الزوج وموافقته على القطع أو الإيقاف ثم متى زال العذر أعيدت المرأة إلى حالتها الأولى، فمن الضروريات مرض الزوجة وضعف بدنها وعجزها عن تحمل الوضع وعن عملية التربية والحضانة ونحوها.
وفي الصدد نفسه قال الدكتور علي بن إبراهيم الحقوي استشاري طب العائلة في مستشفى الملك فهد في الحرس الوطني في السعودية إن من سماحة الإسلام أن قواعده العامة فيها ما ييسر على الناس حتى ينعموا بحياة رغيدة هائلة بعيدة عن كل ما يشوبها من تعقيد.
وأضاف أنه في الوقت الذي يشجع فيه الإسلام على الإكثار من النسل والإنجاب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "تزوجوا الولود الودود"، وقوله صلى الله عليه وسلم "إني مكاثر بكم الأمم" أقول برغم هذا إلا أنه اهتم بصحة الأم والطفل وحدد رضاعة الوليد بعامين كاملين كما قال تعالى "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، ليس هذا فحسب، بل إنه أسقط عن الحامل والمرضع بعض الأحكام وأباح بعض الأحكام التي توضح بجلاء سماحة هذا الدين ويسره.
ويبين الدكتور الحقوي أن الذي يتماشى مع الشريعة الإسلامية تنظيم الحمل، أما تحديده فهو من الدعوات التي أرادها أعداء الإسلام وهي ذات أهداف لا يتسع المجال لذكرها، وأعود إلى تنظيم الحمل وأقول إن المرأة تحتاج إليه لعدة أسباب منها إعطاء الوليد الفرصة الكافية للاعتناء به والاهتمام به وتغذيته بالرضاعة حولين كاملين، حيث تعتبر الرضاعة الطبيعة إحدى أهم موانع الحمل الطبيعية، والسبب الثاني العوامل الصحية، وهي عديدة مثل: فقر الدم، وارتفاع ضغط الدم أو السكر خلال الحمل وتمنعها من تكرار الحمل بعد العمليات القيصرية أو حدوث تمزقات في الأرحام، لذا فإنه من الجلي أن المرأة قد تحتاج إلى تنظيم الحمل، وهنا أوضح أن تسمية تنظيم الحمل وليس تنظيم النسل، لأن تنظيم الحمل هو في تصوري الجهد أو السبب، أما النسل فهو المحصلة النهائية من العدد والنوع، وهذا بيد الله أولا وأخيرا.
من جانبه، قال الشيخ الأديب حامد الأحمري إن هذه القضية وطرحها مفيد في هذا الوقت بالذات نتيجة ما يواجهه الإسلام من إساءات ولعل آخرها الإساءة إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، وفي رأيي أن بعض الناس تأثر بدعوات تحديد النسل وأصبح لا يفرق بين التحديد والتنظيم، بل أصبح يتحجج بمسؤوليات الحياة وصعوبة المعيشة وأن مواجهته يتطلب تحديد النسل، والحقيقة مخالف لذلك بمصداق قوله تعالى "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم" وقوله تعالى "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"، لذا على كل مسلم أن يتجاوز مثل هذه الدعوات ويتمسك بدينه وإذا أراد تنظيم النسل فإن ذلك يكون بمشورة طبية واستشارة أهل العلم والفضل، نسأل الله للجميع التوفيق.

الأكثر قراءة