كيف نتج هذا الوضع؟
> في 11 من كانون الثاني (يناير)، استقال الرئيس السوداني، عمر البشير، من منصبه كرئيس للجيش، كما يقتضي الدستور، من أجل قبول ترشيح حزبه باعتباره مرشحه الرئاسي في الانتخابات العامة المقررة في نيسان (أبريل). ومن المتوقع أن يعلن حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب المهيمن في منطقة جنوب السودان شبه المستقلة وحزب المعارضة الرئيس في جميع أنحاء الدولة، عن مرشحه الخاص. ولكن من المرجح أن تكون شخصية أقل شأنا من زعيم الحزب، سيلفا كير، ذو الشخصية الجذابة. ويخمن البعض ألا يطرح حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان مرشحا ضد عمر البشير على الإطلاق.
وعلى أية حال، سيكون البشير، وهو مشير سابق، المرشح المفضل بلا شك للفوز برئاسة أكبر دولة في إفريقيا. وربما يتم انتخابه دون وجود منافس خطير. وسيكون هذا إنجازا غير عادي – ومخيفا كما يقول البعض - لشخص متهم بارتكاب جرائم قتل من قبل المحكمة الدولية في لاهاي. ومنذ انقلابه قبل 21 عاما، ترأس الجهاد في جنوب بلاده الذي تسبب، في ظل حكمه، في مقتل ما لا يقل عن 500 ألف شخص. كما دمّر أيضا دارفور في الغرب، مخلفا 300 ألف قتيل ونحو ثلاثة ملايين شخص دون مأوى.
وحين تم توقيع اتفاق السلام الشامل، وسط التصفيق الدولي، في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2005 بين حكومة البشير في الخرطوم والمتمردين الجنوبيين في الحركة الشعبية لتحرير السودان، كان من المفترض أن تأخذ الأمور منحى مختلفا تماما. فقد أنهى الاتفاق عقودا من الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، ولكن كان من المفترض أن تكون الانتخابات، المقررة الآن في نيسان (أبريل) من هذا العام، ''لحظة تحول'' في تاريخ السودان.
وللمرة الأولى منذ عام 1986، كان على السودانيين اختيار حكومتهم على كل المستويات، من الرئاسة حتى أصغر الوحدات الإدارية المحلية، مما خفف إلى درجة كبيرة قوة اليد الحديدية التي كان حزب المؤتمر الوطني للبشير يمسك بها الدولة لمدة عقدين. علاوة على ذلك، كان الاتفاق ينص على إجراء استفتاء في الجنوب، في كانون الثاني (يناير) 2011 أو قبل ذلك التاريخ، حول ما إذا كان يجب على تلك المنطقة الشاسعة أن تنفصل عن الشمال، وتؤسس دولة مستقلة جديدة.
إلا أن هذه الانتخابات المخططة وقعت ضحية وعكة عامة أصابت اتفاق السلام الشامل منذ البداية. فقد كان السبب الرئيسي لفرض الصفقة على السودان هو الضغوط المستمرة من قبل الدول الأجنبية، خاصة الولايات المتحدة. وكي تنجح، كان يجب أن يستمر الأجانب في ممارسة القدر نفسه من الضغوط بعد أن تم توقيعها. إلا أن الحرب في منطقة دارفور في الغرب، التي وصلت إلى المرحلة الأكثر عنفا حين كان يجري وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق السلام الشامل، استنزفت معظم الموارد الدبلوماسية والمالية الأجنبية التي كانت موعودة لدعم الاتفاقية بين الشمال والجنوب. وبالتالي تأخر تنفيذ اتفاق السلام الشامل، وهي وثيقة معقدة للغاية، عن موعدها المقرر كثيرا. ولم يتم تقديم كثير من الأموال الموعودة لبناء أشياء مثل الوحدات العسكرية المشتركة، التي تجمع قوات الشمال والجنوب من أجل بناء الثقة بين الجانبين.
وكان من المفترض ألا يتأخر إجراء الانتخابات الموعودة في نيسان (أبريل) عن تموز (يوليو) 2009. وكان قد تم تأجيلها ثلاث مرات قبل ذلك، والأموال التي تم توفيرها لسداد تكاليفها نادرة جدا بحيث إن الكثيرين يخشون أنها قد لا تحدث على الإطلاق. وفي دولة غير معتادة على الديمقراطية الحديثة، وحيث تنتشر الأمية بين نحو 75 في المائة من الإناث (و90 في المائة في الجنوب)، يجب أن يكون هناك كثير من الوقت لتوضيح الكيفية التي تمكّن الناس من اختيار مرشحيهم لما لا يقل عن 12 طبقة من الحكومة. إلا أن الغريب هو أنه في الأسبوع الماضي فقط، وعدت الحكومة البريطانية، بوصفها ضامن لاتفاق السلام الشامل، بمنح ثمانية ملايين جنيه استرليني (13 مليون دولار) من أجل ''التثقيف المدني'' في الانتخابات. ويقول عديد من مراقبي السودان إن المبلغ صغير جدا ومتأخر أربع سنوات.
وقد بدأت الثقة بأن الانتخابات ستغير أي شيء للأفضل بالتلاشي. ومن المؤكد تقريبا الآن أن الانتخابات ستكون فقط على الرئاسة الوطنية وربما على حكم الولايات البالغ عددها 25. وسيكون ترتيب إجراء انتخابات على نطاق أوسع خطرا جدا الآن. والاستعدادات في معظم مناطق الدولة بدائية جدا، حيث إن نسبة المشاركة قد تكون منخفضة جدا. وفي دارفور، مركز معارضة البشير، لن يسجل ما يقارب من مليوني شخص نازحين داخليا ويعيشون في مخيمات لاجئين ضخمة للانتخابات خوفا من فقدان حق التصويت في القرى التي تم إخلاؤهم منها. ولن يتمكن أحد من التصويت في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون. لذا فإن الانتخابات الوطنية لن تكون انتخابات وطنية على نطاق كامل.
وكل هذا يناسب البشير وحزبه، حزب المؤتمر الوطني، بصورة كبيرة. فهو سيساعد على ضمان أن التصويت الذي سيحدث في الشمال لن يكون عادلا. إضافة إلى ذلك، لم يتم إلغاء قانون الأمن القومي الوحشي الذي يمنح الحكومة صلاحيات واسعة للاعتقال والحجز التعسفيين. وفقدت الحكومات الأجنبية الأمل في وجود أي فرصة لإجراء انتخابات عادية. وتأمل بدلا من ذلك أن تكون ''ذات مصداقية'' بدلا من ''حرة ونزيهة''.
ويجب أن يتحمل حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان جزءا من اللوم بسبب حالته المؤسفة. فقد تخلى عن فكرته الطموحة بتعزيز استراتيجية انتخابية قومية حقيقية، التي كان من الممكن أن تؤدي إلى أن تقود الحركة الجنوبية تحالفا واسعا يضم جميع الجماعات العرقية المضطهدة في السودان - في دارفور، في الجنوب والشمال - ضد حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم. وهذا هو نوع التحالف العظيم الذي تصوره جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ وقت طويل، وربما كان يمكن أن يؤدي إلى الإطاحة بالبشير. إلا أن قرنق قتل في تحطم طائرة عمودية بعد وقت قصير من توقع اتفاق السلام الشامل؛ وفشلت جهوده الضئيلة في ترسيخ مؤهلات قومية تتجاوز نطاق الدوائر الانتخابية في الجنوب، وكان مهتما فقط بإسراع الخطى نحو الاستفتاء الخاص بهم حول الاستقلال عام 2011.
لذا، فإن الشماليين في حزب المؤتمر الوطني، والجنوبيين في الحركة الشعبية لتحرير السودان سيعملون من كثب للحفاظ على الوضع الراهن الفاسد في السودان. ويبدو من المرجح أن يحتفظ البشير بعرشه. إلا أن السودانيين الآخرين، خاصة في الغرب المدمّر والشرق، سيجدون أنفسهم ثانية يفتقرون بصورة هائلة إلى التمثيل الحقيقي.
وحينها، ستوجه الحركة الشعبية لتحرير السودان تركيزها على استفتاء عام 2011، على أمل أن ينفصل الجنوب ويظهر كحاكم لدولة جديدة تنهض من خلال رماد نصف قرن من الاضطرابات. ولا تزال هناك فرصة لحدوث ذلك، خاصة إذا تمكّن الشمال من الحصول على حصة الأسد من النفط في المناطق الحدودية المتنازع عليها. وسيكون ذلك إنجازا رائعا، بغض النظر عن مدى فوضوية ذلك. ولكن من المشكوك فيه على نحو متزايد، فيما إذا كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان ستؤدي حينها وظيفتها بصورة جيدة >