دببة عند الباب
إذا سألت الفنلنديين عن طابعهم الوطني، من المرجح أن تسمع كلمة sisu. وهي مزيج من الصمود والمثابرة، ولكن أيضا الشجاعة والتهور والإصرار العنيد. وهناك مثل شعبي يقول: ''حين يكون دب على الباب، لن يقف في وجهه سوى sisu''.
وهناك الكثير من الدببة هذه الأيام على أبواب ''نوكيا''، الشركة الفنلندية التي تعد أكبر شركة تصنيع هواتف محمولة في العالم. وعلى الرغم من أنها لا تزال الرائدة عالميا في سوق الهواتف الذكية سريعة النمو، إلا أن أجهزتها تخسر مكانتها لصالح جهاز iPhone من شركة أبل وجهاز BlackBerry، الذي تصنعه شركة Research in Motion. وفي الخامس من كانون الثاني (يناير)، اتخذت ''جوجل'' خطوة أخرى إلى السوق مع إطلاق Nexus One، الجهاز الذي صنعته HTC من تايوان والذي ستبيعه شركة الإنترنت العملاقة مباشرة إلى المستهلكين، والذي يشغل Android، نظام تشغيل الهواتف الذكية لـ ''جوجل''.
ويعتقد الكثيرون، خصوصا في أمريكا، حيث تهيمن أبل وRIM على سوق الهواتف الذكية، أن ''نوكيا'' فقدت شعبيتها. ويسارع المطورون لكتابة برامج لجهازي iPhone وAndroid، ولكنهم يتجنبون Symbian، برنامج نوكيا المنافس. ولم تحقق جهود نوكيا في خدمات الهاتف المحمول، معظمها تحت علامة Ovi التجارية، تقدما كبيرا.
وحين تتصدر الشركة عناوين الصحف هذه الأيام، يكون ذلك لنشر دعاوى براءات الاختراع التي رفعتها ضد أبل، التي فسرها الكثيرون- ربما ظلما- بوصفها اعترافا بالهزيمة التجارية. وتطلب أحدث الدعاوى التي تم رفعها في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، من لجنة التجارة الدولية في أمريكا منع عدة منتجات لـ ''أبل''، بما في ذلك iPhone، من دخول الدولة.
وتتفوق ''نوكيا'' على ''أبل'' في مجال المبيعات السنوية (57 مليار دولار مقابل 37 مليار دولار) والحصة السوقية في الهواتف الذكية (39 في المائة مقابل 17 في المائة)، ولكنها أقل ربحية بكثير. وفي الواقع، انخفضت حصة ''نوكيا'' من أرباح الصناعة من 64 في المائة عام 2007 إلى 32 في المائة عام 2009- ليس أكثر بكثير من حصة ''أبل'' وأقل من حصة RIM، وفقا لـ Brian Modoff، وهو محلل لدى Deutsche Bank. لا عجب إذن أن تكون الرسملة السوقية لـ ''نوكيا'' ربع الرسملة السوقية لأبل.
ولكن في مقر ''نوكيا'' الرئيس في Espoo، بالقرب من هلسينكي، المعنويات أفضل بكثير مما قد يتوقع المرء. ولا ينكر أحد أن هناك مشكلات. إلا أن المديرين التنفيذيين يصرون على أنه يمكن التغلب عليها. وحين اجتمع أعضاء مجلس الإدارة بالمحللين الماليين في كانون الأول (ديسمبر)، وضعوا بعض التنبؤات الجريئة. فقد وعد Olli-Pekka Kallasvui، رئيس الشركة، أن يتم تحسين برنامج Symbian القديم بصورة كبيرة في غضون عام، لتمكين ''نوكيا'' من تقديم ''أجهزة سحرية''. أما بالنسبة للخدمات، فإن الهدف هو تسجيل 300 مليون مستخدم بحلول نهاية عام 2011. ويقول Ben Wood من CSS Insight، الذي يراقب ''نوكيا'' منذ زمن طويل: ''نادرا ما سمعت مثل هذه التصريحات الواضحة''.
وقد تغلبت ''نوكيا'' على الكثير من الأزمات في الماضي. ففي عام 1995، تعثرت بسبب اللوجستيات السيئة. واستجابت لذلك عن طريق تطوير إحدى أكثر سلاسل التزويد كفاءة في العالم، والقادرة على إنتاج نحو 1.2 مليون جهاز يوميا. وبعد عقد من الزمن، فشلت في توقع الطلب على الأجهزة من نوع ''المحارة''، ولكنها عادت سريعا لاستعادة حصتها السوقية في مجال الهواتف المحمولة لتصل إلى 40 في المائة وبالتالي استعادة هيمنتها في الصناعة.
إلا أن المشكلات أعمق هذه المرة. فعلى ''نوكيا'' أن تصبح شركة مختلفة، بأكثر من طريقة واحدة، كما يقول Jay Galbraith، الخبير الإداري. وقد برعت حتى الآن في صنع وتوزيع الأجهزة. وساعد هذا على تدريب المنظمة على التركيز على التخطيط واللوجستيات. وغالبا ما يتم تحديد المواعيد النهائية قبل 18 شهرا. وتعمل الفرق التي تطور أجهزة جديدة أيضا في عزلة نسبية وبل بصورة تنافسية، لجعل كل منتج أكثر ابتكارا. وعلى الرغم من أن ''نوكيا'' تجري دائما الكثير من بحوث السوق وتصنع الهواتف لكل نوع يمكن تصوره من الزبائن، إلا أنها تبيع معظم منتجاتها لمشغلي الاتصالات وتصمم منتجاتها لتلبية طلباتهم.
ولكن مع ظهور الهواتف الذكية، أصبحت البرمجيات والخدمات أكثر أهمية بكثير. وهي تتطلب مهارات مختلفة. ولا يتم حساب دورات التطوير فصليا أو سنويا، بل شهريا أو حتى أسبوعيا. وليس بالضرورة أن تكون الخدمات الجديدة مثالية، بما أنه يمكن تحسينها بعد إطلاقها إذا أحبها المستهلكون. وعلى الفرق أن تتعاون بصورة أوثق، حيث يمكن تشغيل نفس الخدمات والبرمجيات على أجهزة مختلفة. وعلى نوكيا أيضا إقامة علاقة مباشرة مع مستخدميها مثل علاقة أبل أو جوجل.
ومع ذلك، فقد تنبأت ''نوكيا'' بالتحول إلى البرمجيات والخدمات في وقت أبكر بكثير من غيرها من شركات تصنيع الهواتف المحمولة. وأطلقت Ovi عام 2007، قبل عام تقريبا من افتتاح أبل متجرها الموسيقي الناجح للغاية App Store. وبعد أشهر قليلة، اشترت ''نوكيا'' Navteq، التي تصنع الخرائط الرقمية، بمبلغ 5.7 مليار يورو (8.1 مليار دولار حينها)، لكي تتمكن من تقديم خدمات أفضل على أساس الموقع. وبعد وقت قصير من ذلك، أطلقت ''نوكيا'' Comes With Music، وهو جهاز مبتكر عبارة عن هاتف محمول واشتراك بالموسيقى الرقمية في الوقت نفسه.
ولم تحقق هذه الجهود نجاحا كبيرا، على الرغم من أن ''نوكيا'' تقول إن 86 مليون شخص يستخدمون الآن خدماتها المختلفة. ولا تزال الشركة تعمل على تجميع مجموعة مختارة منها في رزمة أنيقة يسهل الوصول إليها من الأجهزة المحمولة. علاوة على ذلك، يجب أن تتنافس معظم عروضها مع الشركات الشعبية في الوقت الحالي، مثل Facebook، و iTune store لشركة أبل، وGoogle Maps. وما يزيد من تعقيد الأمور هو أن مشغلي الاتصالات مترددون في السماح لـ ''نوكيا'' بتقديم خدمات مباشرة إلى زبائنهم، بما أنهم يريدون فعل الشيء نفسه.
والأسوأ من ذلك هو أنه في الوقت الذي تعالج فيه نوكيا هذه المشكلات، يبدو أنها تهمل مجال عملها الرئيسي. فقد كان هاتفها الذكي الرئيس، N97، خيبة أمل كبيرة. وتقول Carolina Milanesi من شركة Gartner لبحوث السوق إن لدى ''نوكيا'' الكثير من الأجهزة والمعدات، إلا أن برنامجها، الذي يستند إلى Symbian، يجعل من المستحيل تقريبا استخدامها. وتضيف: ''الأمر أشبه بامتلاك هيكل سيارة فيراري فيها محرك Cinquecento لسيارة فيات''. وفي شباط (فبراير) الماضي، أطلقت إدارة ''نوكيا'' ما يعرف داخليا بـ ''مشروع التحول'' للتصدي لكل هذه المخاوف. وتشرح Mary McDowell، رئيسة الاستراتيجيين في ''نوكيا''، بالقول: ''كنا بحاجة للتحرك بشكل أسرع. وكنا بحاجة لتحسين قدرتنا على التنفيذ. وكنا في حاجة إلى المزج بصورة أوثق بين الأجهزة والخدمات''. وقد أدخلت الشركة منذ ذلك الحين هيكلا داخليا أكثر بساطة، وخفضت حافظتها من الهواتف الذكية إلى النصف، وتخلت عن الخدمات الأضعف، وبدأت بزيادة جاذبية Ovi بالنسبة للمطورين عن طريق السماح لهم بدمج خدمات ''نوكيا'' في تطبيقاتهم. وفي الوقت الذي تحسن فيه Symbian، تطور أيضا نظام تشغيل جديد، يسمى Maemo، للهواتف الذكية الشبيهة بالكمبيوتر. ولا شك أن كل هذا سيسمح لـ ''نوكيا'' بابتكار منتجات أفضل، إن لم تكن سحرية. وقد تحقق الشركة هدفها بامتلاك 300 مليون مستخدم بحلول نهاية 2011 لأن جهودها لا تستهدف فقط الدول الغنية، بل الاقتصادات الناشئة سريعة النمو أيضا التي لا تزال ''نوكيا'' تتربع على القمة فيها، مثل الهند. وفي هذه الأماكن، تساعد خدمات مثل Nokia Money، نظام الدفع عن طريق الهواتف المحمولة، و Life Tools، الذي يزود المزارعين بالأسعار ومعلومات أخرى، على تلبية احتياجات حقيقية، كما يقول John Delaney من شركة IDC، وهي شركة أخرى لبحوث السوق. ومع ذلك، فإن قدرة ''نوكيا'' على الهيمنة على صناعة الهواتف المحمولة - ليس فقط بحسب كميات الهواتف المحمولة، بل أيضا بالابتكار والأرباح - مرة أخرى مسألة مختلفة تماما. والمثال الذي تبين في صناعة الكمبيوتر، التي بدأ فيها مركز الثقل بالتحول من شركات الأجهزة إلى مزودي البرمجيات والخدمات قبل أكثر من عقدين، ليس مشجعا على الإطلاق: من بين الشركات العملاقة السابقة في الصناعة، لم تتمكن سوى IBM من التحول بنجاح. إلا أن نوكيا جددت نفسها عدة مرات منذ تأسيسها عام 1865 بوصفها مصنعا للورق. ويشير Dan Steinbock، مؤلف كتابين عن الشركة، إلى أن هذا لا يعود فقط إلى sisu، بل أيضا إلى الاستعداد الواضح لتبني التغيير والتنوع. وستحتاج ''نوكيا'' إلى هذه الصفات في السنوات المقبلة