أمزقُ لساني ولحمي .. شكّاً
.. أود أن أشكرَ «النادي الأدبي» في الرياض، فيبدو أنهم أذاعوا موعدَ المحاضرة التي ستلقى هذه الليلة، التي إن مكّنني الله ألقيتها حول ما سموه «ثقافة الشكّ عند الشباب»، مع أن عندي اعتراض على هذا العنوان، لكن هذا ما خرجوا به فعافاهم الله.. والشكرُ لأن كثيراً من الرسائل تجدّدت في الوصول إليّ من فتياتٍ وفتيانٍ حول مسألة ضعف الإيمان والبحث عن الحقيقية، وعن عذاباتِ الضياع الإيماني، وهي لمن جرّبها أو مرّ بها، من أقسى أنواع الضياع، وأروع متاهاتِ الحيرة، وأشد شراسةً من آلام الجسدِ .. حماكم الله.
على أن شيئاً لافتا حدث..
رسالةٌ من بين الرسائل، مختلفة تماما، وصلتني قبل أن أكتبَ هذا المقال بدقائق، بل إنها دافعي لكتابته، فقد كنتُ قد أعددتُ مقالاً آخر، عن موضوعٍ آخر، في آخر لحظةٍ قبل الإرسال أعلن جهازي عن وصول رسالة بعنوان: « مسيحي ضائع يبحث عن الأمان عند مسلم اهتدى».. فتوقف فجأة كل شيء، بل وكأن محورَ الكرة الأرضية توقف للحظة .. جمدت المرئياتُ أمامي وحولي.. لأني أعرفُ شعورَ هؤلاء الناس، وأعرف معنى أن يطلبوا المساعدة.. فهم لا يطلبونها إلا لما يرون رجمَ الموت، ومثاقيل تجرهم للقاع .. فتوقفتُ!
الخطابُ باللغةِ الإنجليزية، وهذا أمرٌ يجب أن أتوقف له أيضا في القريب، كثيرٌ من الرسائل من شبابِنا خصوصا في المنطقتين الشرقية والغربية والخارج تأتيني بالإنجليزية، فهم فيها أفصح في التعبير عما يخالج الشعورَ بينما يجيدون العربية المحكية بلا عمقٍ إفصاحي. على أن كاتب الرسالة اليوم يبدو أنه درس في مدرسةٍ أجنبية، ويعيش في المملكةِ مع عائلته، والرسالة أترككم معها طبعا بترجمتي وليست كلماتها الأصل، ولن أعلـّق عليها الآن، لأن في الرسالةِ ما يدعو لإرجاء ذلك.. الآن على الأقل.
* (ملاحظة: تم أخذ إذن الشابّ بالنشر، مع اشتراطه بشطبِ وإلغاءِ بعض العبارات والكلمات، وهذا ما تـَم.)
الرسالة:
« أنا شابٌ مسيحيٌ من طائفةِ العرب الموارنة، قرأتُ مقالك عن «أمين الريحاني» بالأمس وعن ولع بعض الموارنة بالإسلام، ووصَلـَتْ لصديقي السعودي رسالةٌ على هاتفِهِ لحضور محاضرة لك مساء السبت (اليوم) في النادي الأدبي بالرياض عن «ثقافة الشك عند الشباب» (والكلمة التي استخدمها الشابُ تعني بالإنجليزية «التيْه»، ولكني وضعتُ عنوانَ المحاضرة كما أُعلِن).. لقد نشأتُ عند جدّي في أول عمري حيث كان والدي يعمل في السعودية، ومازال، وجدّي يعمل شمّاسا لكنيسة، فتربيتُ في جوٍّ ديني غليظ، كان ملؤه الرهبة لا القداسة، الخوفُ لا الإيمان، لذا أقول لك بصراحةٍ لم أقلها لأحد، وربما لأني لا أواجهك ولا تعرفني، إني لم أتذوق يوماً طعما لا للقداسةِ ولا الإيمان.. قرأتُ طبعا كثيرا عن القدّيسين وعن حياة كل منهم، وأحفظها وأعيدها عن ظهر قلب، بل إني أحفظ قصيدة كاملة للشاعر الكاثوليكي «توماس إليوت» مشبعة بالرمزِ الديني، وتمسكه بالدين بعد ضياع، ولكني أُسْقِيتـَها من منظارٍ ديني مسيحي عن العودة عن الذنب Redeeming ، والعودة لمملكةِ الربّ، وشكر يسوع، والعذراء مريم. ولما أخذني جدّي لكاتدرائيةٍ في روما لما نُودي مع طائفةِ الكُهّان المسيحيين في تجمّعٍ سنوي للرهبان، تولعتُ بها ولكن ليس روحيا، وإنما لأنها مزخرفة، أخذت بلـُبِّي رسوماتُ سقف «القبة السماوية» لمايكل أنجلو أكثر من المذبح.. (توضيح: Alter المذبح، وهو المكان الأقصى أمام الجالسين من المصلين في الكنيسة الذي تُقام عليه الشعائرُ والطقوس داخل الكنيسة) وأذهلني جمالُ اللوحاتِ بمشاهدها الإنجيلية، وتصويرات الملائكة، ويوم الدينونة.. ولكن في الروح: فراغ!.. إن مسألة حقيقة الوجود الكوني برمّتها تؤذيني، والتخيل يقتلني فعلا، فأنا مصابٌ، كما أعتقد بلوثةٍ عقليةٍ تخيلية تجعلني أتخيلُ عالماً آخر (وهنا طلب مني الشابُ حذف كلّ وصفِهِ لهذا العالم) تجعلني أصحو من النوم أو من الغفلة المؤذية وأنا إمّا أدميتُ لساني أو شقّقتُ جلدي بأظافري .. أريد لروحي أن تستقرّ، وكي تستقر روحي، فعلى عقلي أن يهدأ، وكي يهدأ عقلي يجب أن أجد إيماناَ قوياً أستكين إليه. وبما أنك في وقتٍ آخر تحدثتَ وفرّقـْتَ بين أن تكون مُلحدا، وأن تكون خارجاً عن الدين، والذي تقصده أنت هو الدين الإسلامي طبعا، إلا أني أعود لنقطتك الأولى، وهي أني أريد أن أبتعد عن الإلحاد، ولا أريد تبشيراً لمملكة السموات المسيحية ولا أي دين.. على الأقل الآن.. إني إن اهتديتُ لواجد الكون وآمنتُ به فسأعرف طريقه، أو ربما ساعدتني بعدئذٍ على التعرف عليه. إن كان هذا هو الموضوع فسآتي مساء اليوم لأستمع، وأعدك أني سآتي جادّا للاستماع.. لأني جادّ في الخلاص من عذاباتِ أن تكون عائماً في كونٍ لا مكان لك تقف عليه. وربما شاركتُ بالسؤال إن أتيت.. وستتعرف علي».
انتهتْ رسالة الشاب.