البطل الثاني
من الصعب على المرء أن يصدق أن إحدى أهم مدن المملكة ومرفئها الأول وبوابتها نحو الحرمين الشريفين، تفتقر لشبكة صرف صحي وقنوات تصريف سيول متكاملة! ما أذهل الناس وصدمهم وآلمهم هو أن فاجعة مدينة جدة لم تأت تبعا لكارثة غير معتادة على نحو ما هو معهود في الأعاصير والفيضانات الخارجية وتداعياتها، وإنما - كما جاء في البيان الملكي - نتيجة أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية!
الفاجعة فضحت مقدار ما تفتقر له هذه المدينة من نقص في بنيتها التحية الأساسية. وهي ثغرة تزداد عمقا مع نمو أعداد سكانها، وكثافة الهجرة إليها، وتمدد أحيائها في مواقع غير صالحة للسكن، وهو أمر ما فتئ يحذر منه محبو المدينة وأصحاب الرأي فيها. لقد شاخت هذه المدينة، وتهلهلت خدماتها، وأصيبت أجهزتها بالشلل. كما كشفت الأيام أن نصيب هذه المدينة البائسة من الفساد كبير وحظها منه تليد، فثخنت جراحها.
وحيث إن لكل ظالم ولكل فاسد نهاية، فقد قيض الله لجدة بطلا كانت تتحراه وتنتظره. وشاءت إرادة الله أن يختار لهذه المهمة قائد الأمة ليجعله سيفا سيسلطه على الفساد والمفسدين، بكل ما عرفه الناس عنه ومنه من حزم وعزم ونزاهة وأمانة ونخوة ورجولة. ونحن نبتهل إلى الله أن يكتب لنا من هذه الفاجعة نهاية للظلمة والفاسدين. لكن علينا أن ندرك أن الفساد لم يكن وليد يوم وليلة بل هو تراكم قديم سببه غياب المحاسبة والمراقبة. علينا أن ننتبه إلى أن لكارثة جدة أبعادا أعمق مما ظهر منها، وإن أردنا إنقاذ بلدنا فعلينا سرعة إصلاح جميع مؤسسات المجتمع التنفيذية والرقابية والقضائية التي تمنع حدوث مثل هذه المفاسد. ونحن نبتهل إلى الله أن يكتب لنا من هذه الفاجعة نهاية للظلمة والفاسدين على يد خادم الحرمين الشريفين ـ أعزه الله ـ، وأن يوفقه ليواصل زحفه التطويري والإصلاحي الحازم فيطول جميع القطاعات التي تعاني التحديات الخطيرة التي تهدد الأمة في استقرارها وتماسكها ورخائها.
كانت مخاوف سكان مدينة جدة من بحيرة الصرف (غير الصحي) الواقعة في شرقها متركزة في الدرجة الأولى على الأوبئة والأمراض التي يمكن أن تسببها هذه البحيرة للمدينة وتنشرها في كل مكان. بيد أن كارثة السيول الأخيرة جعلت مخاطر طوفان البحيرة أو انفجارها – لا قدر الله - بكل ما يمثله هذا من فواجع محتملة كابوسا لا يستطيع سكانها تصوره. وللأسف هي مخاطر ما زالت قائمة ومحتملة عند هطول أمطار جديدة بالنظر للتوقعات الجوية لفصل الشتاء الحالي. فخرائط الرياح والرطوبة والضغط الجوي تشير إلى حالة عدم استقرار جوي بسبب تلاقي تدفقات الرطوبة المتزايدة والمقبلة من البحار مع منخفضات جوية باردة، قد ينتج عنها مزيد من الأمطار الرعدية الغزيرة.
وقد تبين أن سبب الكارثة لم يكن كمية الأمطار غير المعهودة، على الرغم من أنها بلغت - بحسب تصريحات أمين مدينة جدة - 95 ملليمترا وانهمرت على شبكات تصريف لا تتحمل سوى 25 ملليمتر! بقدر ما كان بسبب السيول التي تدفقت إلى جدة عبر الأودية، التي كانت نهاياتها قد سدت على مر السنين بالمخططات والمباني والتعديات على مصارف تلك الأودية. الأمر الذي أعاق حركة السيول الطبيعية ووجهها نحو المدينة بدلا من أطرافها الخارجية. فكيف جرت هذه التعديات تحت أنظار البلدية؟
حين حلت الكارثة بجدة، وامتلأت طرقاتها وأنفاقها بالمياه الجارفة، وتغيرت ملامح المدينة وغرقت البيوت وجرفت السيارات وتعطلت الحياة، لم تكن الأمطار الغزيرة بذاتها هي السبب الحقيقي للكارثة، وإنما هو الفساد الذي قاد للإهمال التاريخي والتقصير المستمر عن عمل ما كان يجب عمله. لا يصح أن نتعجب من وقوع الكارثة، فليس ثمة مجال للعجب، لقد حصدنا ما زرعنا. لقد دفعت جدة الثمن غاليا من أرواح ساكنيها وممتلكاتهم لأننا سكتنا عن الفساد أعواما طويلة، حتى نهض الملك الصالح بعمله البطولي وبيانه الهادر الشمولي ليعلن أن ساعة حساب أهل الفساد قد أزفت. ما حدث لجدة هو كارثة بكل المقاييس! فهل تكون هذه الكارثة التحذير الأخير لنا؟ لا نجاة لنا دون تفعيل دور المحاسبة والعقاب، ولن يثمر هذا الدور إن اقتصر على الصغار دون الكبار. والتحديات الجسام والمخاطر المحيطة بنا لا تسمح بالتساهل أو التسامح. لقد بدأ قائد الأمة بالخطوة الأولى، فمن البطل الثاني والثالث والرابع الذي سيحمل الأمانة حتى نهاية الطريق؟ الأمة تنتظر وتراقب.