الاعتماد على الخدمات الإنتاجية لا يلبي طموحات الإنجليز

الاعتماد على الخدمات الإنتاجية لا يلبي طموحات الإنجليز

في الوقت الذي يندفع فيه الاقتصاد العالمي إلى الأمام بقوة، ويشهد الوضع الاقتصادي في منطقة اليورو انتعاشاً واضحاً يتضاءل توهج شعلة أداء الاقتصاد البريطاني. ومنذ أن تقلد رئيس الوزراء البريطاني ( توني بلير) السلطة عام 1997ومعه وزير ماليته ( جوردان براون ) وهما يصارعان وبصورة غير متوقّعة تدني معدلات النمو الاقتصادي في بريطانيا والآن يحقق النمو الداخلي تراجعاً واضحاً، مع غياب القدرة على معادلة الثغرات الموجودة على جانب الطلب الخارجي حيث سجّل معدل النمو الاقتصادي في عام 2005م، 1.8 في المائة فقط.
عندما بدأ براون مهامه وزيرا للمالية كانت جميع السندات والدفاتر المتخصصة في رصد القيم والمعدلات الاقتصادية تشير إلى حجم مديونية بسيط وحصص خزينة منتظمة. وتشبّث براون بقوة خلال نحو ثلاثة أعوام بأطر السياسة المالية الصارمة التي سار عليها سلفه كينث كلارك وزير المالية السابق من حزب المحافظين. وعلى كل حال، أدت عمليات اندماج النواحي المالية إلى فرض أعباء واضحة على الخدمات العامة، وخاصةً فيما يتعلّق بقطاع الصحة، وعانت المدارس من ضآلة الإنفاق الاقتصادي على مدار عدة أعوام. ووجد براون نفسه مجبراً على رفع حجم الاستثمارات بقوة في قطاعات الصحة، والتعليم، على وجه الخصوص، وهذا ما مكّنها في المحصّلة النهائية من استعادة مركزها مقارنة بمستويات باقي الدول الأوروبية من حيث خدمة قطاعي الصحة والتعليم.
وبالفعل أنجز براون الكثير ليتمكن من تحقيق هذا, حيث ارتفعت معدلات النفقات في قطاع الصحة بسرعة. ولم تنفق الحكومة البريطانية الكثير على قطاع الصحة منذ تأسيس نظام الصحة الوطني في عام 1949، بعكس الأسلوب الذي اتخذه براون خلال الأعوام الخمسة الماضية. وهذا ما حدث بالضبط في قطاع التعليم: حيث صعّد براون من حجم النفقات في قطاع التعليم بشكل كبير كما زاد من قيمة نفقات مساعدات التنمية، والأجور التقاعدية، ونفقات الرعاية الاجتماعية.

وحققت النفقات تأثيرا واضحاً في نطاق محدود: حيث تقلصت الفترات الزمنية المفرطة بانتظار إجراء العمليات الطبية. وفيما يخص قطاع التعليم، انخفضت أعداد الطلاب في الصفوف المدرسية، وهي علامة غير حضارية على جودة التعليم. وكذلك شهدت معدلات الفقر بين المتقاعدين والأطفال، تراجعاً واضحا . ونظراً إلى ارتفاع حجم النفقات تحسّنت إنتاجية قطاعي الصحة والتعليم، ولكن ليس بالدرجة نفسها. ويتهم براون بأن الكثير من الأموال التي أنفقت لم يتم دراستها بطريقة جيدة. بالإضافة إلى أن حكومة بلير فرضت على الدوام تكاليف إعادة هيكلة طائلة على قطاع الصحة من خلال خطط إصلاح صارمة وتخضع لمُراجَعة دائمة حيث يوضّح هذا جانباً كبيراً من سوء رصد المخصصات المالية التي شهدها هذا القطاع. وعلى خلاف ما يبرره البعض، فلماذا لا يزال الكثير من المستشفيات برغم معدلات النفقات القياسية التي حصلت عليها تعاني من الوضع الخطر، ومُهدَدة بالإغلاق.
واليوم يختل الميزان من يدي براون ، فالنفقات الحكومية البريطانية مرتفعة جداً، كما هو الحال في ألمانيا، وفائض حصص الخزينة منهكة. وعلى بريطانيا اليوم، مثل ألمانيا، وعشر من الدول التابعة للمفوضية الأوروبية في بروكسل، أن تصحح نفسها، لأن نفقاتها تفوق الحدود التي وضعتها اتفاقية ماستريخت بنسبة 3 في المائة. وأعلن براون أكثر من مرة، أنه يمسك بزمام الأمور، وأنه وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 ذكر أن حجم النفقات الحكومية المستقبلية حتى عام 2011. ولو استمرّ في الحفاظ على القدر نفسه من مخصصاته، لكانت بريطانيا اليوم الأكثر انخفاضاً من حيث النمو الحقيقي للنفقات الحكومية، منذ الاستحواذ على السلطة من قبل حزب العمل البريطاني بهدف تحديث نفسه.
وبما أن براون كان عليه أن يُقدّر باستمرار حصص نفقات مرتفعة لنظام الصحة الوطني، وقطاع التعليم، بلغ النمو لباقي القطاعات بالمعدل نحو 0.8 في المائة سنوياً فقط. وتحذر مؤسسة الدراسات المالية، برغم عدم وجود تقديرات نهائية بعد، من أن النفقات المرتفعة المطلوبة لن تكون قادرة فعلاً على احتواء خطط إعادة هيكلة نظام الأجور التقاعدية المستقبلي.
وبغض النظر عما إذا كان براون قادراً على الحفاظ على الاتجاهات الصارمة فعلياً: فإن من الممكن بالفعل الآن لمس الأثر على الاقتصاد. حيث عمل براون على جدْوَلة الكثير من عمليات الاستثمارات الأجنبية المباشرة على مدى أعوام، حينها انتفعت بريطانيا إلى حدٍ بعيد من مخططات إعادة الهيكلة التابعة لتاتشر في سوق العمل، وبهذا تمتع براون بالفعل من الانخفاض الطفيف الذي طرأ على قيمة الجنيه الاسترليني، الشيء الذي حفز الوضع الاقتصادي مع وجود النفقات الحكومية الإضافية. وأسهمت هذه النزعة في الصناديق الحكومية خلال الأعوام الأخيرة الماضية في نمو الاقتصاد البريطاني بمعدل نحو نقطة واحدة في المائة. وهذا يُعتبر كثيراً جداً. إلا أن هذا العامل فقد قابليته للتطبيق اليوم، بالفعل في زمن على المستهلك أن يشد حزامه فيه، لأن ما يدفعه إلى هذا حتماً ارتفاع أسعار العقارات، والطاقة، وحجم البطالة من جديد. وفجأةً، يغيب عن الوضع الاقتصادي البريطاني، النقلة في حجم الطلب من الجانب الحكومي، والجانب الاستهلاكي الخاص، على السواء.
والآن كان من الممكن أن يكون امتلاك قواعد صناعية متينة أمراً مثالياً، والتي كان يمكنها أن تستفيد حتى أقصى درجة عن طريق التصدير من النمو الاقتصادي الممتد على مستوى العالم، وخاصةّ في آسيا، وشرق أوروبا. وفجأةً، تدرك بريطانيا أن الحسابات لا تعتمد فقط على الخدمات الإنتاجية وحدها، وإهمال الصناعات المهنية، حيث لا يمكن لفرص العمل في قطاعات الخدمات الإنتاجية أن ترتحل على الأقل بسهولة إلى آسيا، مثل الصناعة. والآن تلتف الرياح إلى الجهات الأخرى: حيث إن الدول, التي يمكنها أن تزوّد اليوم، مثل ألمانيا، القطاعات الاقتصادية الصاعدة في شرق أوروبا، وآسيا، ببضائع استثمارية عالية الجودة، تستفيد من ديناميكية النمو عن طريق التصدير أكثر من بريطانيا التي باتت تتطلّع هي الأخرى إلى تلك الوُجهة. ولكن على كل الأحوال يبدو أن الأعوام التي كانت تتفوق فيها بريطانيا على منطقة اليورو الأوروبية من حيث النمو الاقتصادي باتت معدودة.

الأكثر قراءة