إبراهيم البليهي: الثقافة العربية في حاجة إلى إعادة تكوين.. وأرفض فكرة «موت النخبة»

إبراهيم البليهي: الثقافة العربية في حاجة إلى إعادة تكوين.. وأرفض فكرة «موت النخبة»

إن كان ثمة ما يُصطلح على تسميته «النقد الحضاري»، أو في حال عرفنا الطلائعية بأنها طرح يمتد إلى ما بعد الاحتواء الظرفي الراهن، إذا تحدثنا عن تجسيد التخلف بوصفة بناء كخطوة أولى لهدمه، أو ناقشنا خروجاً عن نص المسلمات في سبيل إعادة كتابتها ضمن نص أكثر قدرة على التأكد منها وأكثر طاقة على النهوض بها، إذا استبدلنا فكرة معاكسة التيار باحتوائه وإعادة تطويعه وتوجيهه وفقما نريده لنكون كما نريد، إذا تخيلنا يؤزم التقليدية ويخذل النمطية فقط كي يجبر عثرة الهوية التي استبد بها ضيق ذات الفكر، فسيحتمل كل هذا أنك تتحدث عن إبراهيم البليهي. الاسم الذي أسس لثقافة تفكيك الجهل وأرسى مشاريع فكرية ساءل من خلالها أبرز أنماط الأزمة الثقافية المعاصرة، وأطلق عنان الرؤى المجددة ليعيد تشكيل مفهوم الثوابت والمتحولات ضمن سياقاتها الزمنية والإنسانية وعلى نحو غير معتاد بالنسبة إلى أنساق الذهنية العربية.
البليهي الذي يقوم على مشروع فكري جديد تحدث لـ «الاقتصادية» في الفكر والفن والثقافة، وعلق على كثير مما يطرح في الساحة, حيث فند نظرية موت النخبة التي طرحها الدكتور فهد العرابي الحارثي، كما شكك في قدرة البيئة الثقافية على تبني المشاريع، وانتقد عزلة الفنان في المجتمع، وانفصام شخصية المثقف.

دعني أبدأ حول فكرة «تفكيك الجهل» التي يطرحها مشروعك الفكري .. وفيما لو حاولنا تبني رؤية قد لا تنقصها المنطقية.. كيف يفكك الجاهل جهله وهو لا يعلم عنه أصلا؟
 الخطوة الأولى وأهم شيء في هذا الجانب هو أن يعترف الجاهل في البدء أن ما في رأسه ليس علماً وإنما مجموعة من الأوهام والجهالات التي لا تقوم على تأسيس علمي متحقق منها..علينا أن ندرك أن كل معرفة لم تخضع إلى التحليل والفحص والمراجعة فهي جهل, نعم قد تكون هناك اعتقادات تبدو جازمة وغير قابلة للنقاش والمساءلة, لكنها في حقيقة الأمر ليست مبنية على فهم صريح أو تحقق واضح ولا على تحليل منهجي وعقلي منصف, هي غالبا لا تتجاوز كونها أفكارا برمجت بها العقول فرضيت بها دون أن تفكر ولو بمجرد التفكير فيها أو مراجعتها.

غير بعيد عن «بنية التخلف» كملمح بارز في نقدك الفكري, فيما لو فرضنا أن النخب استأثرت لوقت طويل بالعلم والفكر معيقة بذلك عملية التحول الحضاري، ما الذي أعاق حدوث هذا التحول مع ظهور فرضية «موت النخبة» نتيجة كسر احتكار المعرفة بفعل المستجد الزمني؟
 المستجدات الزمنية لم تغير شيئاً في الواقع بل ربما دفعته خطوات إضافية إلى الوراء نظرا لوجود مقومات التخلف على ما هي عليه، فرضية موت النخبة موجودة منذ زمن، لكنها في العالم المزدهر وليس في العالم العربي. العرب لم يصلوا إلى هذا المستوى بعد، والنخبة لديهم لن تموت أبدا, وفرضية سقوطهم مقولة غير صحيحة في نظري, سيبقى عامة الناس يقادون حتى لو تعلموا، الحياة تقوم على القيادة والانقياد, قيادة الفكر وقيادة الفعل ولا يمكن أن تغيب النخبة عن هذه المعادلة بأي حال من الأحوال.

كتبت في إحدى مقالاتك عن وجود فنون ما زالت خارج النسق الثقافي العربي, وقد أرجعت ذلك لأسباب تتعلق بالتذوق الفني نافياً علاقته بنوعية التكوين الاجتماعي ..هل يمكن القول إننا نشهد تصاعدا إبداعيا محدود التأثير بالنظر إلى غياب تصاعد يقابله على مستوى الذائقة؟
في اعتقادي أن ازدهار المجتمعات يقوم بدرجة كبيرة على الإبداع من جهة وعلى الاستجابة له من جهة أخرى، وحين ننظر إلى واقعنا فسنجد أن المجتمع لدينا لا يستجيب لإبداع الفنانين, وهذا الأمر يتضح حين يتعلق بأنماط تعبيرية تعتمد على المستوى الفردي, حيث يوجد فنانون أبدعوا وبرزوا في مجالات عدة, لكنهم يعيشون شعورا باليتم الذي تسبب فيه غياب ردة الفعل الطبيعية في العملية الإبداعية والمتمثلة في الاستجابة البناءة والتقدير والرعاية لهذا الفن أو ذاك, مثلا اللوحة الفنية في أي بلد العالم تجعل الفنان التشكيلي معروفا في مجتمعه وله مكانة كبيرة على المستويات الرسمية والشعبية، بينما الفنان لدينا لا يعرفه أحد, وهذه مشكلة كبيرة من شأنها أن تعزل المواهب وتقيض عملية التلقي بوصفها الاكتمال الطبيعي للعمل الجمالي والتكامل المفترض معه, الازدهار في أي مجال يقوم على الإبداع والاتباع, يفترض أن يستجيب المجتمع للمبدع لكنه في حال غياب هذا الشرط يصبح الفن نوعا من التضحية التي لا تتجاوز نفسها وإن تجاوزت غيرها في القيمة والنوع.. كيف يبدع الفنان وهو لا يحظى باعتراف مجتمعه أصلا؟!

هل يمكن القول كذلك إن مفهوم التربية الفنية في المدارس ظلم المفهوم الواسع للفن بوصفه حساً روحيا عالياً ومتنوعاً بالجمال، واختزله في أنماط تقليدية محدودة أسهمت لاحقا في «رسم» أزمة الذائقة؟
 بلا شك أن التعليم لعب دورا في ذلك, فضلا عن أن ثقافتنا ليس فيها ذلك التنوع الذي يجعلها تستوعب أطيافا إبداعية متعددة, أغلبية الفنون «مغبونة» في المجتمع لأنها لم تعط الاهتمام الذي يليق بدورها الحضاري حتى عبارة «التربية الفنية» لم تقدم تربية واضحة للمجتمع على أن يستجيب للمؤثرات الفنية والجمالية، لم تمنحه حتى مجرد القدرة على أن يفهمها على الأقل. الفن قيمة راقية على مستوى الفكر والذوق والمنجز الإنساني, وهذا ما تستطيع لمسه حين تزور المتاحف في أوروبا وأمريكا, فالفن يحظى لديهم بمكانة كبيرة، هناك مجتمع مسكون بذائقة قادرة على الفهم والاستفادة، وهناك فنانون يعرفهم الجمهور أكثر من السياسيين, بينما لدينا مبدعون في بعض الفنون الجميلة لا يعرفهم إلا زملاؤهم فقط! ما لم يكن هناك تقدير للمبدعين فلن يكون هناك فن, المبدع عندنا يتيم يحتاج إلى من يرعاه لأنه لا يجد الاستجابة من مجتمعه.

ما تعليقك على من ينقد مشروعك بداعي أنه يتحدث عن كمٍ هائل من المشكلات في مقابل افتقاده رؤية واقعية يمكن تنفيذها فعليا لصنع واقع معاكس؟
ببساطة أقول لك من يقول إن مشروعي لم يقدم خطة واقعية هو بالضرورة لم يقرأ ما كتبت، كل ما قدمته وأقدمه يأتي على سبيل الوصف للواقع واستشراف لما ينبغي أن يكون عليه, ليس مهمتي أن أعمل، ولا يوجد مثقف عموما يقوم بتنفيذ رؤاه, دور المثقف يكمن في كونه شخصا يقرأ الواقع بمنهجية علمية وفكرية منصفة فيشخص العلة ويصف الدواء, لكنه ليس معنيا بالجانب التطبيقي لأسباب كثيرة، دعك من كونه لا يستطيع أصلا أن يقوم بدور عملي إضافة إلى دوره العلمي.

في مقابل خطط ومشاريع عدة للنهوض بالثقافة من حيث كونها العمق الاستراتيجي للتحولات الحضارية ..على مستوى تلقي فعل كهذا ..هل ترى أن ردة الفعل لدينا تساعد على تحقيق واقع يشبه الرؤية المستهدفة للثقافة؟
هي لا تساعد على ذلك بشكلها الحالي, ولكن في المقابل علينا أن ندرك أننا دون وضع استراتيجية ثقافية لن نستطيع مجرد التفكير في احتمالية التقدم أو التغير نحو الأفضل، التغيير في أي مجال يحتاج إلى استراتيجية واضحة تضع آليات تطويره وتعنى بتغيير طريقة التفكير فيه، وإلا فسيبقى الوضع على حاله دون أن يأتي بجديد يذكر، يتضح ذلك مثلا في التعليم فهو لا يطرح مقترحا فعلياً للتغيير وإنما يكتفي بتكريس أشياء موجودة في الواقع.

هل يمكننا في هذا السياق أن ننتقد حصر الثقافة - وهي المعنية بصنع التجديد والتحولات - في مجرد شقها المعرفي والأدبي بوصفه سببا لحالة الجمود.. في حين كان يفترض تفعيلها كإرادة تغيير؟
 بالتأكيد, فهمنا للثقافة يجب أن ينطلق من كونها رؤية عامة للحياة، وليست مجرد معلومات، كما أنها ليست أدبا فقط، طريقتنا في استيعاب المفهوم الأوسع للثقافة والتعامل مع هذا المفهوم هي أولى خطواتنا في اتجاه تفعيله كقيمة قادرة على أن تصنع طرق التفكير وتطبق قواعد التغيير على أرض الواقع، ما أراه أن ثقافتنا أو رؤيتنا الراهنة للحياة ما زالت لا تساعد على الازدهار أبدا ولا تعد بمجرد الدخول في مشروع حقيقي للتغيير البناء. لن يحدث ذلك إلا حين تقبل الثقافة التغيير في نفسها أولا لكي يصبح المجتمع في مرحلة لاحقة قابلا للتغيير بناء على تأثيرها فيه.

 كثير من التقنيات الحديثة لم تتم الاستفادة منها كما يجب بل يتم استخدامها حالياً بأسوأ طريقة ممكنة في تكريس قيم متخلفة غالباً، هل يعني هذا أننا في جاهلية حاضرة؟
كلا, بالطبع لا يمكن أن نشبه أمراً كهذا بالجاهلية التي كانت موجودة، لأن الوضع الحالي هو أسوأ بكثير من تلك الجاهلية، لاحظ أنها لم تكن تملك الأدوات المؤثرة والمعطيات الكبرى الموجودة حاليا التي يقوم البعض باستخدامها لترسيخ مقومات التخلف من خلال أشكال عدة، نحن امتلكنا الأدوات التي صنعها الآخرون واستخدمناها في ترسيخ تخلفنا!

إذا صح لي سيدي تشخيص الحالة النفسية للمثقف العربي بانفصام شخصية حاد بين الثابت والمتحول إلى جانب أعراض واضحة للرهاب «الثقافي» تجاه الآخر .. كيف تتخيل علاج حالة متأخرة كتلك؟
 لا شك أنها حالات موجودة فعلا ولها مضاعفاتها الملموسة أحيانا والمختلفة حسب البيئات الذهنية والظروف، وعموما فكلها تتم معالجتها ضمن رؤية عامة وضمن نسق ثقافي، دعني أقول لك إن ثقافتنا بأكملها محتاجة إلى عملية إعادة تنظيم شاملة، ومشروعي الفكري يقوم بشكل أساسي على الإسهام مع المثقفين الآخرين في إعادة تكوين الثقافة العربية ضمن سياق حضاري يتفهم المتطلبات الزمنية المختلفة، ما لم تتم إعادة تكوين الثقافة فالمجتمع العربي لم يتغير، منذ 100 عام حتى الآن ونحن لم نتغير بل بالعكس تماما، أعتقد أننا قبل 50 أو 60 عاما كنا أفضل حالاً من الآن وأكثر قابلية للتطور والتغيير الإيجابي.

تحدثت سابقا عن النظام التعليمي وغياب أدواره التأثيرية في المستويات الفردية والجمعية.. ما دوركم كمفكرين في لفت النظر إلى أساليب التعلم أو نقد المناهج التي لا تحفل بجديد جدي؟
لست مطلعا بشكل كامل على ما يدور في هذا الجانب، وإن كنت أستشعر عدم وجود تغيير عملي واضح حتى الآن، دورنا ألا نكتفي بأن ننتقد جزئيات محدودة في الواقع التعليمي بل أن ننتقد الواقع كاملا، وكذلك دورنا أن نطالب بالانفتاح الثقافي على مستوى التعليم والصحافة والإعلام ومختلف المجالات، كل وسائل التأثير في المجتمع يجب أن يتم حشدها لتكوين مفهوم جديد الثقافة العربية من أجل أن نكون قادرين ومهيئين للتقدم والازدهار.

 إذا نظرنا إلى خطاب أوباما الأخير من حيث كونه رسالة ثقافية، هل تعتقد أن العالم العربي سيكون متلقيا جيدا وفاعلا أم أن العرب سيخذلون أوباما حسبما توقع بعض المحللين؟
هم سيخذلونه حتماً، إذا استمر العرب يفكرون بهذه الطريقة فهم سيخذلون أوباما وغير أوباما ممن يمد يده إليهم لتحسين العلاقة معهم. ما زلنا نفتقد ثقافة التلقي الملائمة لمثل رسائل كهذه ولا أعتقد أننا قادرون على التعامل مع العالم، العالم انتقل من ثقافة الإخضاع إلى ثقافة الإقناع، وأوباما يتحدث من هذا المنطق ويريدنا أن ندخله مع حوار، يطلب منا أن نستخدم هذا الأسلوب الإنساني الجديد المتمثل في الإقناع، أمريكا دولة قوية لكنها لا تتعامل معنا بمنطق الإخضاع، هم يقولون لنا تعالوا نجلس على الطاولة حتى نفهم بعضنا ونتعاون من أجل خير الإنسانية، وهي الدعوة ذاتها التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في وقت سابق.

هل يمكن قراءة غيابك عن فعاليات الأندية الأدبية ضمن موقف تجاه نوعية الفعل الثقافي التي تقدمه؟ أو تجاه المؤسسات الثقافية عموما؟
 الأمر لا ينطوي على أي موقف مني، أنا لا أحضر فعاليات لا للأندية الأدبية ولا لغيرها من المؤسسات بسبب انشغالي البحثي بمشروعي الفكري المقبل.

هل تتفق مع فرضية أن الخجل الاجتماعي قيض مواهب المرأة وإبداعاتها على المستوى المحلي؟
حين تعبر المرأة عن نفسها إبداعيا وعن طريق أي فن من الفنون فهذا يدل بوضوح على وعيها بذاتها وتطلعها إلى صنع واقع أفضل ستفهم متطلباتها وطموحاتها ويمنحها حقوقها الثقافية والعلمية والاجتماعية كفرد له كيانه الخاص الفاعل ضمن منظومة المجتمع.
المرأة السعودية لا تختلف عن غيرها من نساء العالم، وهي تملك مقومات التفوق في أي مجال متى ما أتيحت لها الفرصة.

 افتتحت أخيرا معرضاً للفن التشكيلي يخص إبداعات فنانين شباب .. كيف تنظر إلى مناسبة كهذه من واقعها الثقافي العام وفي ظل كتابات لك تطرقت إلى دور هذا الفن في «تشكيل» رؤى حضارية متجددة؟
الفن التشكيلي فن رفيع وهو من أكثر الفنون قدرة على كشف التنوع في الأفراد. وميزته هي أنه يوضح ذلك التمايز الفردي, كل شخص لديه فكرة ولو عبر عن الفكرة نفسها شخص آخر، لكان عمله مختلفا, إذن هذا التنوع الكبير يثري المجتمع ويرتقي بحسه الفني وقدرته على تلقي الإبداع. الفنان التشكيلي لا يقل عن لاعب الكرة, أنا لا أقلل من الرياضة بوصفها فنا, ولكن أعتقد أن الرسام يقدم عملا ثقافيا راقيا يستحق الحظوة نفسها التي يحظى بها اللاعب إن لم يكن أكثر.
إجمالا، كل فرد يمثل عالمه المستقل، وفيما لو أتيحت فرصة لكل فرد أن يعبر عن مشروعه الإبداعي في أي مجال، فهذا سيعني أننا سنقف على عوالم متعددة يميزها تنوع هائل بسبب اختلاف الأفراد في ميولهم وتوجهاتهم وطرق التعبير بينهم, وهذا يثري الفن والحياة.

الأكثر قراءة