الشركات القابضة وهندسة القيمة
يشهد عالم الأعمال توسعًا متسارعًا في اعتماد نموذج الشركات القابضة بوصفه آلية لتوفير قيمة تتجاوز حدود التشغيل اليومي. الفكرة ببساطة: تتحول الشركة الأم إلى منصّة لتخصيص رأس المال تبحث عن الفرص وتستثمر فيها عبر الاستحواذات وامتلاك حصص مؤثرة، فيما تُدار الشركات التابعة باستقلالية تشغيلية تتيح للإدارة العليا التركيز على الحوكمة وتوزيع الموارد وقياس العائد على رأس المال المستثمر.
تاريخيًا، ظهر نموذج الشركة القابضة في أواخر القرن التاسع عشر مع التكتلات الأمريكية بعد تشديد قوانين مكافحة الاحتكار. ومع العولمة وصعود التكنولوجيا وتنامي دور الصناديق السيادية، انتشر عالميًا وتحوّل من وسيلة لضمّ الملكيات إلى حِرفة لتخصيص رأس المال: يوجّه الاستثمارات، يسرّع الابتكار، يخفّف المخاطر، ويعزّز التنويع عبر الدورات الاقتصادية.
تقدم تجربة إعادة تنظيم شركة Google إلى Alphabet عام 2015 مثالًا واضحًا: فصلت الشركة مشاريعها المستقبلية في وحدات مستقلة مع الإبقاء على قرارات التخصيص الرأسمالي في الكيان الأم، فصار الهيكل أكثر قدرة على الابتكار والاستثمار معًا.
وعلى أرض الواقع المالي، تكشف قوائم شركةBerkshire Hathaway الأمريكية عن قوة هذا النهج؛ إذ بلغت الأصول الموحّدة بنهاية 2024 نحو 1.154 تريليون دولار ضمن محفظة تجمع التأمين والسكك الحديدية والطاقة إلى جانب استثمارات أسهم مدرّة للنقد، ما يتيح تدوير التدفقات بين أنشطة تختلف دوراتها الاقتصادية. وفي مجال السلع الفاخرة، تؤكد شركة LVMH الفرنسية جدوى إدارة مجموعة العلامات التجارية؛ إذ تضم نحو 75 علامة تعمل باستقلالية تحت سقف مالي واحد، بإيرادات بلغت 84.7 مليار يورو في 2024 وشبكة توزيع تتجاوز 6300 متجر، وهو ما يبرهن أن الفصل بين الملكية والتشغيل يسرّع النمو ويحافظ على الهوامش.
إقليميًا، تبرز الشركات القابضة المدعومة بالصناديق السيادية الخليجية لاعبًا استثماريًا عابرًا للحدود، مع توقع بلوغ أصول هذه الصناديق عالميًا نحو 18 تريليون دولار بحلول 2030.
وفي السعودية يرسّخ صندوق الاستثمارات العامة دوره منصة قابضة تقود التنويع في الطاقة والتقنية والسياحة والرياضة، مع هدفٍ لرفع الأصول إلى نحو 3 تريليونات دولار بحلول 2030، بما يهيئ بيئة خصبة للاستثمار في شركات تُكمّل الدور السيادي وتستفيد من عمق السوق.
وتُعد صفقات الاندماج والاستحواذ مغذّيًا رئيسيًا لمحافظ الشركات القابضة.
ففي 2024 سجّل إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 701 صفقة بقيمة 92.3 مليار دولار بزيادة 7% على أساس سنوي، منها 580 صفقة في دول مجلس التعاون الخليجي .
وخلال النصف الأول من 2025 وحده أُبرمت 425 صفقة بقيمة 58.7 مليار دولار مع توسّع ملحوظ في الصفقات العابرة للحدود وتعاظم دور الجهات الحكومية والسيادية. هذه المؤشرات تبرز كفاءة هذا النموذج في إعادة تشكيل المحافظ وفق دورة أسعار الفائدة والسيولة بدل الاكتفاء بإدارة ثابتة.
عمليًا، لا ينجح نموذج الشركة القابضة بتكديس الأصول، بل بتخصيص وتنمية رأس المال بانضباط. ينطلق من ميزة تنافسية قابلة للتوسع وتوجيه الاستثمارات إلى أسواق سريعة النمو ومربحة بهدف التفوق على المنافسين، مع تعزيز النشاط الجوهري والتوسّع المدروس في الأنشطة المتاخمة ذات القيمة المضافة.
وعلى مستوى الصفقات، يُفضَّل الاستحواذ البرامجي المدروس (سلسلة صفقات صغيرة أو متوسطة ذات أطروحة استثمارية واضحة) بوصفه مكمّلًا للنمو العضوي، مع مراجعة دورية لمحفظة استثمارات الشركة لبيع الأنشطة منخفضة العائد وإعادة توجيه السيولة إلى الفرص الأعلى مردودًا.
وعند وجود حوكمة واضحة تفصل صلاحيات الشركة الأم عن الشركات التابعة، وإدارة رشيدة للدين تراعي دورة الائتمان، تتحول الشركة القابضة من إطار قانوني إلى نهج استثماري يصنع قيمة مستدامة.
كاتب ومحلل في شؤون المال والأعمال