حين تحوّل الابتكار إلى استثمار والمستقبل إلى صناعة

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، أصبحت الابتكارات التقنية والاقتصادية حجر الأساس في بناء اقتصادات مرنة وقادرة على المنافسة. ولم يعد الابتكار مجرد شعارات تتردد في المؤتمرات أو خطط مؤجلة في الأدراج، بل تحوّل في بعض النماذج إلى استثمار حقيقي، وصناعة تشكّل المستقبل على أرض الواقع.
وتبرز اليوم تجربة وطنية فريدة تظهر هذا التحوّل الجوهري من الطموح إلى التطبيق.
منتصف 2025، أُعلن تأسيس شركة “هُومين” مجموعة وطنية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، مدعومة من صندوق الاستثمارات العامة، لتكون مركزًا محوريًا لصناعة الذكاء الاصطناعي لا مجرد مستخدم له. تستهدف الشركة بناء واحدة من أكبر القدرات الحوسبية في العالم، بطاقة أولية تبلغ 1.9 جيجاوات، ترتفع إلى 6.6 جيجاوات بحلول 2034، ما يعادل 7% من القدرة العالمية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
ولعل الأبرز في هذه المنظومة ليس الطموح وحده، بل الشراكات العالمية التي وقعتها الشركة، والتي تتضمن اتفاقيات مع شركات تقنية كبرى لتوريد مئات الآلاف من وحدات المعالجة الرسومية وتطوير البنية التحتية السحابية. كما أُعلن إطلاق صندوق استثمار برأسمال يتجاوز 10 مليارات دولار لتعزيز منظومة الابتكار المحلية وتمكين التقنيات العميقة.
التحوّل من الاستهلاك إلى الإنتاج لم يتوقف عند الذكاء الاصطناعي، بل امتد ليشمل القطاع الصناعي التقني. ففي خطوة تظهر الثقة الدولية بالبيئة الاستثمارية المحلية، أعلنت شركة “لينوفو” الصينية تدشين مصنع متكامل ومقر إقليمي لها في الرياض، باستثمار يقدّر بنحو ملياري دولار، وبمساحة تتجاوز 200 ألف متر مربع. من المتوقع أن يبدأ الإنتاج في 2026، ليشمل الحواسيب الشخصية والمحمولة والخوادم.
ومن المنتظر أن يسهم هذا المشروع في توفير نحو 15 ألف وظيفة مباشرة و45 ألفًا غير مباشرة، إلى جانب أثر اقتصادي يُقدّر بـ 10 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بحلول 2030. هذا التوجّه يكرّس مبدأ التنوع الاقتصادي، ويعزز من التحوّل إلى مركز إقليمي لصناعة التقنية.
هذه المشاريع هي بالفعل جزء من رؤية أوسع تُدرك أن الابتكار ليس محصورًا في الأجهزة أو البرمجيات، بل يشمل قطاعات عدة بشتى أنواعها وكل ما يدعم بناء اقتصاد معرفي حقيقي. وما يميز هذه المرحلة ليس فقط حجم الاستثمارات أو الكم الكبير من المبادرات، بل القدرة على بناء منظومة متكاملة تجمع بين التعليم، والبحث، والصناعة، والسياسات العامة.
وأصبح واضحًا أيضاً أن الابتكار لم يعد خياراً شكليًا أو رفاهية، بل ضرورة إستراتيجية، تتشكل من خلاله أمامنا ملامح اقتصاد جديد تنافسي ومرن ومستدام قادر على تحقيق نمو مستدام. إنها لحظة فارقة تُترجم الرؤية إلى واقع، وتُحوّل الحلم إلى صناعة، وتؤكد أن الرهان على العقول والاستثمار في التقنية لم يعد رفاهية، بل مسار لا بديل عنه.

أستاذ وباحث في الهندسة والأنظمة الابتكارية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي