تجربة البنك الدولي في التمويل .. تعثر في تشاد
تجربة البنك الدولي في التمويل .. تعثر في تشاد
يبحث البنك الدولي وتشاد في صيغة مرضية لحسم الخلاف بينهما بشأن العائدات النفطية والوصول إلى تسوية تحفظ ماء وجه كل طرف، وذلك بعد الخلاف العاصف بينهما خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وفي مطلع هذا الشهر عُقد اجتماع سري بين مسؤول تشادي وآخرين من البنك في باريس، كل ما تسرب عنه أنه كان إيجابيا وأنه سيفتح الباب أمام زيارة لوفد من رئاسة البنك في واشنطن خلال الأسابيع القليلة المقبلة، للنظر في نوعية التسوية المنتظرة. ويبدو أن نقطة الانطلاق أن البنك وتشاد لا يرغبان في أن يوصما بالفشل.
الاقتراحات بدأت تتسرب مثل السماح للحكومة باستغلال عائدات صندوق الأجيال المستقبلية لمدة عام أو عدم ضم عائدات الحقول الجديدة التي تبدأ الإنتاج إلى الصندوق وغيره.
النزاع بين الطرفين الذي استمر شهورا عدة، شكل يوم الأربعاء الرابع من كانون الثاني (يناير) الماضي علامة فارقة في مسيرته. ففي ذلك اليوم وقّع الرئيس التشادي إدريس ديبي على تعديلات قانون الثروة النفطية بما يعطي الحكومة سلطة أكبر على العائدات المالية، وينهي بذلك الدور القوي للبنك في إدارة الشؤون المالية لدولة نامية وتحويل الجزء الأكبر من العائدات إلى برامج محاربة الفقر.
التعديلات تمت رغم جهود البنك ورئيسه القوي بول وولفتز، الذي رأى في التعديلات التي أدخلها البرلمان على القانون المعتمد منذ عام 1999 تخريبا للاتفاق بين البنك وتشاد.
وحاول وولفتز عبر اتصالات متعددة مع الرئيس ديبي إثناءه عن اعتماد تلك التعديلات، ووصل الأمر بالرئيس إلى عدم تسلم مكالمات وولفتز الهاتفية في بعض الأحيان، ولم يجد وولفتز مناصا من التهديد بأن البنك سيوقف قروضه إلى تشاد، وهو التهديد الذي نفذه بعد أن اتضح جليا أن تشاد مصرة على المضي قدما وإنفاذ أمر التعديلات بعد موافقة البرلمان عليها، الذي يسيطر عليه أنصار الرئيس ديبي.
ويعود النزاع إلى شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عندما أعلنت تشاد عن رغبتها في تعديل القانون الذي بموجبه يتم الإنفاق وتخصيص الإيرادات للمشاريع، وذلك دعما للخزينة العامة في مواجهة المهددات الأمنية التي تحيط بالبلاد، وذلك على أساس أن القانون اعتمد قبل أربع سنوات من ضخ النفط وبالتالي فهو يعتبر قفزة في المجهول لابد من مراجعتها، كما قال وزير المال التشادي عباس محمد.
البنك أعلن بوضوح أن تغيير القانون لن يحل مشاكل تشاد، التي يعترف بوجودها، بل وقد يؤدي إلى تهديد أسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج إليها البلاد وملحقاتها من استراتيجية محاربة الفقر، واعتماد الشفافية في العمل، وهي الأهداف التي وفرت للبنك المظلة التي دخل بموجبها في مشروع تمويل خط الأنابيب الذي يمتد على مسافة 670 ميلا عبر تشاد والكاميرون، ناقلا النفط إلى ساحل المحيط وإيصاله إلى الأسواق العالمية. ويفضل البنك حلا يتمثل في إحداث قدر أكبر من الانضباط المالي، وعبر عن استعداده للإسهام في هذا الجانب.
التعديلات التي أدخلت تقوم على إلغاء مخصصات صندوق الأجيال، التي كانت تحصل على 10 في المائة من العائدات المالية، وكذلك إعادة تعريف المجالات ذات الأولوية في الإنفاق لتشمل الأمن والجوانب الإدارية الخاصة بالحكومة، كما ستضاعف التعديلات من الحصة التي تذهب إلى الخزينة العامة ولا تخضع إلى رقابة خارجية، إلى 30 في المائة.
بداية القصة كانت من خلال اسهام البنك بمبلغ 39.5 مليون دولار في تمويل مشروع خط الأنابيب الذي قاربت تكلفته الكلية أربعة مليارات دولار، ويمتد معظمه في الكاميرون، لكن وجود البنك بثقله الأدبي والمالي شريكا أعطى المشروع ترجيحا كانت تحتاج إليه تشاد الخارجة لتوها من حرب أهلية وتسعى إلى استغلال ثرواتها، لذا كانت على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع البنك مقابل وجوده في قائمة ممولي المشروع.
وشمل الاتفاق أن يفتح حساب في "سيتي بانك" في لندن، حيث تذهب العائدات إليه بعد حسم الضرائب والمستحقات الأخرى، ومن ذلك الحساب تذهب 10 في المائة إلى صندوق الأجيال المستقبلية، و72 في المائة إلى مشاريع محاربة الفقر ومجالات الصحة والتعليم، والبقية تقسم مناصفة بين الحكومة الفيدرالية والولايات التي يستخرج منها النفط. وتم تكوين لجنة من الحكومة ومنظمات المجتمع المدني للاتفاق على المشاريع التي سيتم الإنفاق عليها.
الرئيس التشادي ديبي تحجج بأن الأمر يتعلق بالسيادة الوطنية، وذلك يجعله لا يقبل نصيحة من أحد لإخباره كيف يتم التصرف في العائدات المالية الخاصة ببلاده، وهذا ما دفع وولفتز إلى التوصية لمجلس إدارة البنك بتجميد قرض لتشاد بقيمة 124 مليون دولار، وهو القرار الذي وافق عليه جميع أعضاء مجلس الإدارة بلا تحفظ أو استثناء.
قرار تشاد إنفاذ التعديلات وقلة حيلة البنك في التصدي لها تعتبر ضربة لجهود البنك الهادفة إلى محاربة الفقر، وكان يتخذ من المشروع التشادي نموذجا لما يمكن أن يكون عليه الوضع في الدول النامية التي تتفجر فيها ثروة نفطية، خاصة وأن مجلس إدارة البنك قرر رفض استراتيجية تدعوه إلى عدم تمويل مشاريع النفط والفحم ابتداء من عام 2008 لارتباطها بالفساد والتشويه البيئي، لكن مجلس الإدارة كان يرى أن العائدات النفطية يمكن أن تمثل دعما كبيرا لاستراتيجيته الخاصة بمحاربة الفقر.
منظمات المجتمع المدني الغربية كانت تحذر من أن هذه الاستراتيجية ليست محكمة، وأن موافقة تشاد على التعاون مع البنك ترجع إلى رغبتها في إكمال مشروع خط الأنابيب، الذي اكتمل فعلا عام 2003 حاملا 250 ألف برميل يوميا إلى المستهلكين، وأنه حال اكتماله فإن تشاد لن تكون لديها الرغبة ولا الحافز للاستمرار في الوفاء باتفاقها القديم مع البنك، إذ ستضغط عليها حاجيات الدولة إلى المزيد من الإنفاق الأمني والإداري متجاوزة ما عداها، وهو ما تعبر عنه تعديلات القانون. لذا كانت توصيتها بألا يلتزم البنك بالتمويل إلا بعد أن تتضح قدرة الحكومة التشادية على الوفاء بتعهداتها للمجموعة الدولية.
ودعت هذه المنظمات البنك للاستفادة من تجربته في تشاد والعمل على مراجعة مشروعاته المستقبلية. ووفقا لأوكسفام فإن البنك الدولي إما وافق وإما يخطط للدخول والإسهام في تمويل مشاريع في الكنجو، غانا، جواتيمالا، وروسيا، التي أبدت كلها استعدادا للدخول في تعهدات لتركيز الإنفاق الحكومي في مجالات التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر.
لكن وكما اتضح من تجربة تشاد، فإن هبوط الثروة المفاجئ على مناطق فقيرة يكون مدمرا، خاصة مع غياب آليات الضبط المالي الحكومي. ويحذر الخبراء مما يطلق عليه "لعنة النفط" التي تؤدي إلى إهدار مجالات العمل التقليدية، إذ يهجر الكثيرون أعمالهم القديمة ويركزون على كيفية الحصول على نصيب في كعكة البترودولارات بمختلف السبل، كما ينتشر الفساد بين الموظفين، فمن السهل سرقة أموال لم يتعب فيها أحد.
وتسهم سيادة مثل هذه العقلية في تعقيد ميزانية الدولة، فالكل يعتقد أن البلاد أصبحت أغنى، والساسة يبدأون في بناء مشاريع ضخمة وفخمة ولا جدوى اقتصادية منها، والمواطنون يرفعون أيديهم دون عمل في انتظار عطايا الدولة، وتتفتح مسارب ودروب للفساد لا نهاية لها. وفي أحد التقديرات فإن عمليات الفساد المرتبطة بالصناعة النفطية كلفت في العقد الماضي نحو 12 مليار دولار.
وترى مارينا أوتواي الباحثة في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي، أن اكتشافات النفط والغاز في الدول النامية تؤدي إلى إشاعة مفاهيم ومعلومات مغلوطة تسهم في زعزعة الاستقرار السياسي بما يؤثر مباشرة في أسواق الطاقة العالمية، ويهدد الإمدادات.
وتضيف أن الإعلان عن اكتشاف النفط يثير إحساسا بالغنى لا حدود له، وأنه بالتالي من حق أي شخص أن يصبح من أصحاب الأموال. وتؤدي هذه العقلية إلى زيادة التوقعات وتضخيمها وبما يمكن أن تفعله الثروة النفطية، بينما في واقع الأمر فإن فترة خمس سنوات لا بد من مرورها قبل أن تبدأ البلاد المكتشف فيها النفط في تذوق طعم الثروة الجديدة، إذ يفترض أن يتم تعويض الشركات الأجنبية عن الأموال التي أنفقتها لاستخراج النفط قبل أن تحصل الحكومات على كل أو معظم العائد.
وفي هذا الصدد نشطت مؤسسة المجتمع المفتوح التي يمولها المستثمر العالمي جورج سوروس في مسعى للضغط على الشركات النفطية أن تقلم من أظافر الفساد من خلال حملة تحت شعار: أنشر ما تدفع، أي الطلب إلى الشركات النفطية أن تنشر معلومات عن الرشاوى التي تقدمها إلى المسؤولين. ووجدت هذه الحملة دعما من رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في مسعى لترقية سلوكيات الحكم الرشيد في الدول النامية.
لكن عندما اتجهت شركة بريتش بتروليوم إلى وضع هذا الشعار موضع التنفيذ في أنجولا، تم تهديدها من قبل الحكومة هناك بالطرد إذا نشرت شيئا، وكان أن توقف ذلك المسعى واعتمدت الشركات على استراتيجية تطلب من المنظمات أن تسعى إلى اقناع الحكومات بالنشر أولا لتعقبها هي فيما بعد بنشر المعلومات المتعلقة بالرشاوى للمسؤولين الأجانب.
المتاعب مع تشاد لم تبدأ مع مشاريع تعديل القانون في أواخر العام الماضي، وإنما قبل ذلك. ففي مؤتمر استضافته العاصمة البريطانية لندن عام 2004، فاجأت ثيريس ميكومبي، وهي نائبة رئيس اللجنة المكلفة بمراقبة الإنفاق على المشاريع في تشاد، الحاضرين بانتقادها العلني لما يجري، وشكواها من قلة الموارد وضعف عدد الموظفين المخصصين للعمل، وشح المعلومات من قبل الحكومة التشادية والكونسورتيوم النفطي الذي تقوده "إكسون / موبيل".
إجمالي الاستثمار في الصناعة النفطية التشادية يقدر بنحو أربعة مليارات دولار، وقد تم البدء في استخراج النفط من الاحتياطي المقدر بنحو مليار برميل. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2003 غادرت أول شحنة إلى الأسواق العالمية، وفي الشهر التالي تم إيداع أول مبلغ في الحساب البنكي في لندن، ويقدر أنه خلال عام 2004 حصلت الحكومة التشادية على نحو 150 مليون دولار، ارتفعت العام الماضي 2005 إلى 200 مليون.
عند بداية مشروع خط الأنابيب وصفه البنك في إحدى نشراته أنه يمثل مخاطرة كبيرة وعائدا أكبر، لكن الكثيرين من الناشطين في منظمات المجتمع المدني يرون أن المخاطرة وقعت على كاهل السكان، بينما العائد الأكبر استمتعت به الحكومة التشادية والشركات الأجنبية وحدهما.