الملل .. إكسير ذات يترنح أمام إغراء الشاشات المحمولة

الملل .. إكسير ذات يترنح أمام إغراء الشاشات المحمولة
الملل .. إكسير ذات يترنح أمام إغراء الشاشات المحمولة

يوما بعد آخر، تثبت وسائل التكنولوجيا أنها مصممة على إسقاط المخاوف التي راودت الفيلسوف برتراند راسل حين قال "إننا أقل خوفا مما كان عليه أسلافنا، لكننا أشد خشية من الملل"، فأوقات إحساس الإنسان المعاصر بالملل باتت في تضاؤل مستمر، مع فورة أدوات الترفيه، فوسائل التواصل الاجتماعي (منشورات، صور، فيديوهات، ألعاب...) وحدها بحر بلا شطآن، بمقدوره تلبية رغبات مختلف الفئات العمرية، بجميع أنواع الإثارة والتسلية، لملء أوقات الفراغ دون أي شعور بالملل.
يوشك الملل الذي كان السعي لقتله سببا وراء اكتشاف إسحاق نيوتن قانون الجاذبية عندما شاهد تفاحة تسقط خلال تجواله في أرجاء البيت، تحصنا من الطاعون العظيم في لندن، أن يصبح جزءا من التاريخ، أو مجرد حكاية في مسيرة التطور البشري، بفعل الحصار المتنامي لوسائل التكنولوجيا على الإنسان، إذ بات استدعاء الهواتف النقالة، بين لحظة وأخرى، ممارسة آلية يقدم على المرء دون أدنى تفكير. وذلك ما أكدته نتائج أبحاث في الولايات المتحدة، تفيد بأن الملل يراود 74 في المائة من الأفراد عند تركهم الهواتف في البيت.
كان الملل الذي نوشك على توديعه في العصر الراهن الإنسان على مر التاريخ، وشغل حيزا مهما من تاريخ البشرية منذ قيامها. فضلا عن كونه دوما عدوا ينبغي محاربته بكل الوسائل الممكنة، وظل الحال كهذا حتى جاءت الفتوحات التكنولوجية فنفذت المهمة بسهولة، مع مضاعفات أخطرها تحويل الأشخاص، بدعوى محاربة الملل، إلى مدمنين للتقنية، فالسعي الدؤوب وراءه يفرض محفزات أقوى تفضي في النهاية، بالنظر إلى طبيعتها السريعة واللحظية، إلى مزيد من الملل، فانقلب الفكاك من الملل مولدا له، كما حذر من ذلك الفيلسوف آرثر شوبنهاور.
يعد شوبنهاور الملقب بفيلسوف الملل الأكبر، أول من تعاطى مع الموضوع بمنظور مغاير بوصفه من أعظم مآسي البشرية، واهتم بالبحث في الملل الذي يعده لعنة لا يمكن الفكاك منها، فالحياة عنده مثل رقاص ساعة يتأرجح بين الملل والألم، فالرغبة تولد الشعور بالألم نتيجة الفقد والحاجة، لكن الأمر لا يلبث أن يتحول مملا بعد حين، لتظهر رغبة أخرى في متوالية لا تتوقف، وأن السرديات تتحدث، بحسب بيتر توهي، الأكاديمي في جامعة كالجاري الكندية، عن عناية الرومان بالمسألة، وفق ما جاء في رسالة صخرية، في مدينة بينفينتو - جنوب إيطاليا حاليا - تثني على تانونيوس مارسيلونس الذي خلص شعب المدينة من الملل، بفضل أعماله الصالحة، دون أي تفاصيل أوفى عن هذا الرجل أو تلك الأعمال.
رغم قدم الملل كسلوك بشري قدامة الوجود الإنساني على الأرض، تبقى العناية بدراسة وبحث الظاهرة حديثة جدا، فحضور الملل في النقاش الفلسفي والتداول الفكري وحتى في الأعمال الأدبية متأخر مقارنة بـعراقة الظاهرة الإنسانية. أما الدراسات العلمية الدقيقة لسلوك الملل، فلا تزال في بواكيرها، فبداياتها تعود إلى مطلع الألفية الثالثة، ولم تنتظم في شكل مؤسساتي حتى 2021، بتأسيس الجمعية الدولية لدراسات الملل.
ولد هذا الاهتمام أسئلة عديدة حول الملل، دفعت لطرح رؤى مغايرة، فانبرى خبراء للبحث في فوائد الملل، مدافعين عن جوهرية هذا السلوك في حياة الأفراد، فالبشر مدينون له بتغيير كثير من نواحي حياتهم، فلو لم يراود الملل الأسلاف لما سعوا إلى إدخال تحسينات على معيشهم، فالتنوع الذي بات قاعدة في الحياة المعاصرة في الطعام والفنون والعمران والرياضات... ثمرة من ثماره. هكذا يصير الملل تجربة لا بد من عيشها بدل الهرولة للتخلص منها، حتى إن برتراند راسل يقول إن "من لا يحتملون الملل هم أشخاص قطعوا صلتهم بآلية الطبيعة المتأنية، وستذبل دوافعهم ببطء، كأنها زهور مقطوعة في إناء".
تدريجيا، شرعت الدراسات في تصحيح التصور السائد عن الملل، فتحدثت أكاديمية في جامعة تكساس الأمريكية عن أن "كون الملل تجربة يومية يشير إلى أنه يجب أن يقدم لنا شيئا مفيدا". وذهب جون إيستوود زميلها في جامعة يورك إلى عد الملل أساس الإبداع".. عندما تشعر بالملل نكون في حالة غير مريحة ويكون لدينا الدافع إلى البحث عن شيء آخر. وهنا، في هذا الدافع، توجد فرصة حقيقة لاكتشاف شيء جديد".
عد كثيرون الملل إشارة طبيعية مفادها أن الوضع في الجسم البشري غير طبيعي، ما يستوجب قسطا من الراحة للعقل البشري، قصد ترتيب بيته الداخلي. فالعقل البشري، وخلافا لأباطيل التكنولوجيا، لا يمكنه البقاء في حالة استثارة دائمة، فالانتباه المستمر مجهد للدماغ والجسد معا، ما يجعل الاستسلام للملل ضرورة طبيعية. فهذا النشاط العقلي ذو النطاق الحر له دور كبير في وظيفة الدماغ الصحية، إنه أشبه بشحن البطارية، على غرار ما اكتشفه الإنسان مبكرا في علاقته بالأرض، حيث يعمد من وقت إلى آخر إلى إراحتها حتى تزيد إنتاجيتها.
تمكين العقل البشري من الشرود، يسمح لدماغ بالسباحة في مساحات غير معروفة، فالملل يثير مشاعر الفضول والرغبة، كما أكد ذلك الفيلسوف فريدريك نيتشه في إحدى نصائحه، حين قال: "إن الذي يحصن نفسه تماما ضد الملل يحصن نفسه ضد نفسه أيضا. إنه لن يشرب أبدا إكسيرا أقوى من نبعه الداخلي الخاص".
الأبحاث العلمية الدقيقة حول الملل تعد بالشيء الكثير حول سلوك بشري ظل حتى وقت قريب في حيز اللا مفكر فيه، وهذا تحديدا ما أكده الكاتب الأمريكي جوزيف إبشتاين في مقالة له عن الموضوع، بقوله: "الملل هو، قبل كل شيء، جزء من الوعي. وفيما يتعلق بالوعي، لا يزال لدى أطباء الأعصاب كثير ليطلعونا عليه أكثر مما أخبرنا به الشعراء والفلاسفة".

الأكثر قراءة