موسم الرياض وازدواجية المعايير .. يا قوم ما لكم كيف تحكمون؟

موسم الرياض وازدواجية المعايير .. يا قوم ما لكم كيف تحكمون؟

عاد عشاق سؤال "أين العرب؟" لممارسة هوايتهم المفضلة، عند كل حدث أو واقعة تلحق بالأمة العربية، وكان اختيارهم هذه المرة فعاليات موسم الرياض، أكبر المواسم الترفيهية في المنطقة العربية، الذي لا يستقيم تنظيمه، بحسب منطقهم، بالتزامن مع أحداث الحرب في الأراضي الفلسطينية، عادين أن هذه الاحتفالات من شأنها "التشويش" على متابعة الرأي العام لمجريات العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.
لا رد لأبناء وبنات المملكة على هذا التحامل سوى المثل العربي القائل: "لو ذات سوار لطمتني"، فشغل هؤلاء ومن على شاكلتهم هو محاربة طواحين الهواء الدونكيشوتية، بافتعال نقاشات سطحية وسجالات هامشية تبقى أول من يحول الأنظار عن قضايا الأمة. والتربص بالآخرين بعيدا عن الذات، فالجمل لا يرى حدبته، كما في القول الشعبي المأثور، لأن ما تشهده المملكة يحدث في غير دولة عربية، مع فارق بسيط يتعلق بحجم ونوعية الاحتفالات وذلك راجع بالدرجة الأولى إلى مكانة الدولة ورؤيتها للترفيه كرافد من روافد الاقتصاد الوطني. 
كان الترفيه دوما حاضرا في حياة الأفراد، فما من سبيل للتخلص من الضغط اليومي إلا به، حتى صار مع بلوغ الثورة الصناعية دورتها ضرورة من ضرورات الحياة، فما نقله من هامش الدورة الإنتاجية إلى مركزها، بتحوله إلى صناعة واعدة باتت تشكل ملتقى جملة من القطاعات. دفع هذا التحول عدة دول إلى الرهان بقوة على الاستثمار في الصناعة الترفيهية لتحقيق الازدهار الاقتصادي، في ظل تزايد التوقعات التي تبشر بمستقبل زاهر لهذه الصناعة في غمرة التحول العالمي.
تفطنت دول مبكرا إلى المسألة، فقررت دخول غمار المنافسة لاحتلال المراكز الأولى في الصناعة الترفيهية، مثلما يحدث في صناعات أخرى، واختلفت سياساتها في هذا الشأن بين تلك التي اختارت التركيز على قطاعات بعينها في المجال -السينما، الرياضة، السياحة...- وأخرى فضلت مزج مختلف الجوانب، برؤية استراتيجية وشمولية مستغلة ما توفر لديها من مقومات جغرافية وبشرية واقتصادية لكسب الرهان، بتحصيل أكبر العوائد من صناعة عالمية واعدة.
تمكنت المملكة العربية السعودية، في الأعوام الأخيرة، من اقتحام هذه السوق الناشئة، والتحول سريعا إلى رقم ثقيل في مختلف جبهاتها، خاصة بعد إعلاء قيادة البلاد من مكانة الترفيه في السياسات العامة، مؤكدة أن "الترفيه يمثل حاجة إنسانية ومتطلبا اجتماعيا، إضافة إلى كونه يعد نشاطا اقتصاديا مهما ومصدرا من مصادر الدخل للدول وللقطاع الخاص، ومحركا رئيسا للأنشطة الاقتصادية الأخرى".
ونجحت في تصريف صناعة الترفيه، التي تتولاه هيئة خاصة أسست عام 2016 فضلا عن قطاعات أخرى، في برامج حكومية ثرية، تمثل أعمدة تقوم عليها رؤية المملكة 2030، فبمعية برنامج "جودة الحياة" الذي يطمح إلى تشييد مدن عالمية ملهمة، بأنشطة غنية ومواعيد متنوعة، في الرياضة والفنون والثقافة والسياحة... نجد برنامج "تنمية القدرات البشرية" الذي يهدف إلى تأهيل المواطن السعودي ليصبح في قلب هذه الصناعة، فاعلا ومتفاعلا، مؤثرا ومتأثرا، مفيدا ومستفيدا.
تحد كبير بسقف تطلعات أكبر، عده مراقبون مغامرة غير محسوبة العواقب من دولة حديثة العهد بصناعة الترفيه المتطورة، على اعتبار أن الترفيه في شقيه الثقافي والفني قديم في المملكة (مهرجان أبها، مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة...)، لكن السعوديين والسعوديات، حكومة وشعبا، كانوا على موعد مع التاريخ لصناعة مستقبل بلادهم بلغة الأرقام وشواهد الإنجاز والفعل على أرض الواقع، لا الثرثرة والضجيج خلف الشاشات وعلى منصات التواصل الاجتماعي.
سرعان ما انعكس ذلك على أداء قطاع الترفيه، رغم حداثته في البلاد، فالرؤية التي رفعت سقف إنفاق الأسر على الترفيه في المملكة كنسبة من إجمالي إنفاقها من 2.9 إلى 6 في المائة بحلول 2030 ، كانت على بينة من إنفاق المواطنين السعوديين على السفر والترفيه خارج البلاد، الذي وصل إلى 26 مليار دولار في عام واحد. فضلا عن استحضارها المؤشر الديموغرافي، فنحو ثلثي سكان المملكة دون سن الـ35 عاما، ما يعني مزيدا من الطلب على مختلف فنون وأصناف الترفيه في المملكة.
باختصار، تتحدث الأرقام عن سوق ترفيه ضخمة في المملكة العربية السعودية، حيث تشير دراسات إلى أن هذه السوق يتوقع أن تنمو بمعدل سنوي مركب 10.44 في المائة خلال الفترة من 2023 إلى 2028. ما يمثل بالنسبة لدولة تخوض معركة التحول الاقتصادي صناعة جديدة، من شأنها أن تشكل ذراعا اقتصادية مهمة، ستدر على خزينة البلاد مليارات الدولار، وتوفر عشرات الآلاف من الوظائف للمواطنين والمقيمين على حد سواء، فضلا عن إسهاماتها بأسلوب ناعم في الدعاية للمملكة باستقطاب الزوار والسياح من مختلف بقاع العالم.
لكل تلك الأسباب، والثمار التي بدأت تجنيها المملكة العربية السعودية، في زمن قياسي جدا، أغاظت ضعاف النفوس في أكثر من قطر عربي، ولم يجدوا سبيلا للتخفيف عما لحقهم من خيبات الأمل، سوى المزايدة على السعوديين والسعوديات بتنظيم دورة من دورات موسم ترفيهي سنوي بوقائع الحرب في فلسطين، وكأن إلغاء موسم أو تأجيل مباراة سيوقف الحرب أو يعيد الحياة إلى ضحايا الحرب.
ولا ضير من تذكير هؤلاء بمقولة "أشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى أصبعي". فالسعودية التي تحتضن موسم الرياض، احتضنت قمة عربية إسلامية استثنائية ولقاءات دبلوماسية بسرعة مكوكية، منذ اندلاع وقائع الحرب، بحثا عن كل السبل لإيقاف العدوان، وإنهاء الحرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن أعين القوم لا ترى في الواقع سوى ما يداري أمانيهم ونزعاتهم. مثلما عمت عما يحدث في أوطانها، من مبهجات الحياة طوال أيام الحرب، دون أن تنبس ببنت شفة، استنكارا ولا تضامنا! فيا قوم ما لكم كيف تحكمون؟

*باحث وكاتب مغربي

الأكثر قراءة