ثقافة وفنون

الزواج .. مؤسسة تبادل للمنافع قبل العواطف

الزواج .. مؤسسة تبادل للمنافع قبل العواطف

الزواج .. مؤسسة تبادل للمنافع قبل العواطف

الزواج ظاهرة قديمة قدم الوجود البشري على الأرض، تطورت عبر التاريخ حتى استقرت على شكلها الحالي، ففكرة الحب، بحسب علماء الأنثروبولوجيا، أمر حدث في الزواج. فالبدايات الأولى لزواج رجل من امرأة كانت لأهداف وغايات أخرى غير ما نراه اليوم من منطلقات أساسها المشاعر والأحاسيس. فالقدماء تزوجوا لأجل تحقيق مصالح وتبادل المنافع، اقتصادية كانت أو أمنية أو حتى خدماتية، بين الرجال والنساء لقرون زمنية طويلة.
تحدث المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في "قصة الحضارة" عن المسألة بإسهاب، مؤكدا بأن عيش الإنسان خارج دائرة الالتزام الأسري أسهل، فكتب يقول بأن: "الشهوة الجسدية ليست هي التي دفعت الناس إلى نظام الزواج، لأنك لا تجد في الكثرة الغالبة من الشعوب البدائية إلا قليلا من القيود المفروضة على العلاقات الجنسية قبل الزواج، ولأن الزواج بكل ما يسببه من مضايقات نفسية وبكل ما فيه من قيود، يستحيل عليه أن ينافس الشيوعية الجنسية في إشباعها الميول الجنسية عند الإنسان".
دفع ذلك بالمؤرخ الكبير إلى البحث عن أسباب أخرى، حيث اهتدى إلى أن "يكون الدافع إلى الزواج وتطوره عوامل اقتصادية قوية الأثر، وأرجح الظن - وهنا ينبغي أن نتذكر مرة أخرى أننا لا نعرف من بدايات الأشياء إلا قليلا- أن هذه العوامل التي دفعت إلى نظام الزواج كانت مرتبطة بنشأة نظام الملكية".
وحتى قبل ظهور فكرة الملكية، شكلت الحاجة عنصرا مهما في اختراع الإنسان فكرة الزواج، التي يعتقد أن نشأتها الأولى تعود إلى حقبة تمتد من 1.8 مليون إلى 23 ألف عام، حيث كانت المنفعة أساس هذه العلاقة، الحماية مقابل الطبخ، حين كان البشرية تعيش على الصيد والالتقاط. ثم جاءت فترة الاستقرار مع الحياة الزراعية، فظهر العيش في جماعات منظمة يقودها عدة رجال يشتركون في عدة نساء، وذلك قصد تكثير الولادات ضمانا ليد عاملة أكبر تساعد في الزراعة والرعي.
تطورت فكرة الزواج باختلاف التجارب البشرية، مع انعقاد إجماع بين المؤرخين بأن مؤسسة الزواج انطلقت في بلاد الرافدين نحو 2350 قبل الميلاد، ثم انتشرت لدى بقية الشعوب الأخرى، وفق السياق الاجتماعي والثقافي لهذه الجماعة أو تلك. في حضارة ما بين النهرين مثلا كان النسل والاستمرارية هدفا أول للزواج، فكان الزواج بأكثر من امرأة مباحا متى كانت الأولى غير قادرة على الإنجاب، فضلا عن تجريم الإجهاض بعقوبات تراوح ما بين السخرة والإعدام.
وعدت الحضارة الأوروبية القديمة العزوبة جريمة معاقب عليها بالحرمان من حق الانتخاب ومشاهدة المواكب العامة، وتشددت روما تجاه الظاهرة بقرارها زيادة الضرائب المفروضة على العزاب، وحتى حرمانهم من الميراث ما لم يتزوج خلال 100 يوم من وفاة الموروث. واتضح اقتران الزواج بالإنجاب، بقرار حكام تخفيض الضرائب مع زيادة عدد الأطفال حد إسقاطها على كل أسرة تنجب أكثر من ثلاثة أطفال.
وفي الصين، وتحديدا قبل نحو خمسة آلاف عام، كانت العلاقات الجنسية مشاعية دون تمييز، فالصينيون يعيشون في جماعات دون وجود زوجين ثابتين، فقد يكون للطفل أكثر من أم، واحدة رئيسة (الأم الكبيرة) وأمهات غير رئيسة يعرفن باسم الأم الصغرى. التعددية في الزواج إذن ارتبطت بأهداف وغايات غير المشاعر الأحاسيس التي اقترنت بالزواج الأحادي. كان للعاطفة دور مهم في الزواج لدى المصريين القدماء، ما يفسر سيادة الزواج بامرأة واحدة، بعد دخول عناصر أخرى في الحسبان. وبلغت شدة الارتباط عندهم درجة نقش صورة الزوجة على قبر زوجها كدليل واضح على دورها في حياته، وأملها مشاركته الحياة الأخرى.
حاول باحثون التأسيس لهذه المنعطف في تاريخ الزواج بانتقال البشرية من المجتمع الزراعي إلى نظام الاقتصاد الحر، فهذا التحول حرر الأفراد من الزج بأنفسهم في علاقات خدمة لمصالح عائلية أو تحالفات قبلية. فالابن في ظل هدا النظام الاقتصادي لا ينظر إلى نفسه وريثا للأرض، والبنت لم تعد خيارات زواجها مقتصرة على الأقرباء من العائلة حفاظا على الثورة والملكية من التفكك.
مهما تكن التطورات التي حدثت للزواج عبر التاريخ، فإن كثيرا من التقاليد صاحبته إلى الحقبة المعاصرة، من قبيل التقليد الروماني القديم الذي يقضي بوضع خاتم الزواج في الإصبع الثاني، أي البنصر، بدعوى أن فيه عصبا يتصل بالقلب مباشرة. ما يضمن المحبة بين الزوجين طالما كانت الزوجة ترتدي خاتم الزفاف. كذلك الأمر بالنسبة إلى باقة الزهور التي تلقيها العروس نهاية الحفل، فأصولها أوروبية مرتبطة بإلقاء فتات الخبز المحلى فوق رؤوس الحاضرين ممن يتسابقون للحصول عليه كبشارة باقتراب زواجهم. حتى شهر العسل الذي يعرف بأنه الإجازة الملحقة بحفل الزفاف، له جذور تاريخية قديمة، تعود إلى تقليد تقديم مشروب العسل إلى العريسين في الليالي القمرية التي تعقب حفل الزفاف، بغرض زيادة معدل الخصوبة. أما كعكة الزفاف فأصلها كعك دقيق الذرة عند قبائل في أمريكا يطعمه العروسان لبعضهما.
ولا يزال كثير من غرائب طقوس الزواج يقاوم الاندثار لدى بعض الشعوب، كطقس الإعلان عن اتحاد الخاطبين بالدم لدى جماعات في أرياف الهند، حيث تعمد الفتاة إلى جرح بنصرها الأيسر، ويجرج الفتى بنصره الأيمن لتؤخذ قطرات دم من الإصبعين تمزج مع أرز يطبخ على نار هادئة يتناوله الخطيبان. وانتشر لدى نساء البندقية في إيطاليا تقليد كتابة اسم الزوج على ورقة توضع داخل أكلة تتناولها العروسة ليلة العرس، حتى يبقى حبها لزوجها ما بقيت على قيد الحياة.
ومن عجيب طقوس الاحتفال ما يحدث في روسيا حيث كان الأب يضرب بسوط جديد ابنته العروس ليلة العرس، ثم يسلم السوط إلى زوجها. ولدى قبائل في إفريقيا الاستوائية تقليد استهلال الزوجة طقوس الزفاف بإهداء زوجها خنجرا مسنونا أداة للقتل عند خيانتها. وفي مناطق في ألبانيا يتم الزواج دون إعلان ولا احتفال، حتى تلد الزوجة مولودا ذكرا. وليس أغرب منه طقوس قبيلة نيجريتو في جنوب المحيط الهادي، حيث يتقدم الخطيبان إلى عمدة القرية الذي يزوجهما بدق رأسي أحدهما بالآخر، حيث يصبحان زوجين وفق عرف القبيلة.
واضح أن مؤسسة الزواج بمختلف أنماطها خضعت لأكثر من توظيف عبر التاريخ، اقتصادي وجغرافي وأمني... في الأغلب ما تسقط من أذهان من يحصرون نظرهم إليه في الصيغة الحديثة للزواج فقط، وعن ذلك كتبت إحداهن بسخرية تقول: "كان الأنثروبولوجيون يؤمنون بأن الزواج اختراع من أجل حماية المرأة والأولاد، ثم جاءت النسويات في السبعينيات ليؤكدن أن هدفه سيطرة الرجال على النساء والأطفال، بينما ليست للزواج فائدة تبدو إلا أنه يجعل الناس أصهارا".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون