مسجد هواي شنج.. حنين إلى نبي الإسلام وسط بنايات كوانزو الصينية
يجرفك الصوت الحنين إلى قلبك جرفاً نحو مصدره، ويصبح كل شيء بهيجاً وصافياً، خاصة حينما يتناهى إلى سمعك خافتاً وسط ضجيج بلاد مثل الصين لا يبدو في أفقها, أي مآذن كتلك التي في بلادنا، هناك وسط ناطحات السحاب المتكدسة، يمكنك بالكاد مشاهدة منارة جامع هواي شنج, والذي يعني بالصينية «مسجد الحنين إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم» ، تماماً في أقدم أجزاء مدينة كوانزو أشهر مدن الصين الجنوبية .
قالت لي الدليلة الصينية التي رافقتني إلى هناك «هذا هو شارع قوانغتا رقم 56 الذي يمثل الحي الإسلامي، هنا يمكنك شراء كل ما يخصكم أنتم المسلمون، وهذا هو المسجد», لكن الذي لم تقله لي الدليلة هو أن هذا المسجد يحمل في داخله تاريخا يمتد إلى أكثر من 1400 عام، سُجلت خلالها عشرات الآلاف من قصص التجار العرب الذين اتخذوا من هذا الشارع الممتد طويلاً مكاناً مفضلاً لحط رحالهم، يوماً ما كان يعيش في هذا الشارع أكثر من 100 ألف عربي، ذهبت أجسادهم وتجارتهم لكن تأثيرهم بقي ماثلا في شارع قوانغتا الذي يعني بالصينية «المنارة», كما بقي في وجوه الصينيين المسلمين الذين يجاورون على المصلى إخوانهم القادمين من مشارق الأرض ومغاربها.
يتخذ المسجد شكلاً مستطيلاً، محدب السقف، وتظلل بوابته مظلة ممتدة على طوله يسندها عدد من الأعمدة، وعلى الجانب الأيمن من بوابته لوحة حجرية تؤرخ لبعض التواريخ الخاصة بالمسجد وبنائه، وفي الداخل يلاحظ المرء أن المسجد ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية كُتب في صدر أحدها بخط عربي «صيني» «إن الدين عند الله الإسلام» ، بمزيد من التجول أكتشف كثيرا عن تاريخ المسجد.
تفيد لوحة قديمة معلقة عند إحدى بوابات المسجد «نقشت كما هو مبين عليها في عام 1350 أن المسجد قد بني إبان حكم أسرة تانج التي امتدت بين الأعوام « 618 – 907 « للميلاد أي في القرن الأول من الهجرة وأن الذي بناه أو أسهم في بنائه تاجر عربي يدعى وقاص, ومن هنا يشكك البعض في أن تاريخ المسجد أقدم من ذلك إذ يدعي البعض أن باني المسجد هو الصحابي الجليل سعد بن وقاص إبان حياة النبي ـ محمد صلي الله عليه وسلم، وهو ما لم يثبته أحد.
رغم اتساعها وعدد المسلمين القاطنين فيها، فإن زوار كوانزو أو كوانجو كما يحلو للصينيين نطقها لا يجدون في أنحائها سوى القليل والقليل جداً من المساجد، فإلى جانب مسجد هواي شنج هناك مسجد آخر يدعى مسجد هوبان, وهو أكثر حداثة من سابقه كونه قد خضع للتجديد أكثر من مرة آخرها قبل عقود قليلة، ولتلك قصة رواها إمام المسجد إسماعيل وانج قوانج شوي لأحد صحافيي مجلة «العربي» الكويتية قال فيها «إن أحد أغنياء مدينة كوانزو قد تعرض ذات مرة لاعتداء شنيع، وترك ينزف على قارعة الطريق، فمر به إمام المسجد في ذلك الوقت فو يونج فنج الذي قام بحمله إلى منزله بالقرب من فناء المسجد حيث تعهّده بالرعاية الكاملة، وعندما تماثل للشفاء أعلن إسلامه وأسرته على يد الإمام وقام من فوره بإعادة تجديد وبناء أجزاء من المسجد على نفقته الخاصة.
من أعلى قمة جبل بايوون الذي يحيط بالمدينة من الناحية الشمالية, حيث الأبراج العالية والشوارع الملتفة والمتقاطعة, ونهر اللؤلؤ الضيق ذو المياه المندفعة ظللت ذات مساء موغل أبحث عن منارة جامع هواي شنج، ولأني كنت أعرف أنني لن أستطيع مشاهدته، سرحت بخيالي بعيداً وعدت إلى ذاكرة الأيام القديمة حينما كان العالم كله يسمي هذه المدينة ميناء العرب أو كانتون كما كان يطلق عليها الأجداد الطامحون، هناك خلف هذه العمائر السامقة كان المسجد الذي بناه العرب بمنارته البيضاء السامقة منذ أكثر من 1400 عام يقبع في مكانه كأطهر بقعة في هذه المدينة التي تلمست فيمن قابلت من أهلها أو تحدثت معهم مدى لهفتهم لمعرفة هذه الدين.