كي لا تتكرر كارثة "السلام 98"
كان الخميس الماضي الموافق 2/2/2006 يوماً حزيناً في تاريخ الملاحة البحرية, فقد شهد مساء ذلك اليوم غرق العّبارة المصرية "السلام بوكاشيو 98" في البحر الأحمر وعلى ظهرها نحو 1400 راكب وملاح أثناء رحلتها من ميناء ضباء في المملكة العربية السعودية إلى ميناء سفاجا في جمهورية مصر العربية, اللذين تفصل بينهما مسافة 100 ميل بحري تقريباً تقطعها العبّارات (سفن تحمل ركاباً وسياراتهم) في أقل من ثماني ساعات في الظروف العادية. لكن معظم ركاب تلك العبّارة المنكوبة لم تستغرق رحلتهم ذلك الوقت إذ انتهى أجلهم في منتصف الطريق عندما ابتعلهم البحر في ظلمة الليل. أما من كُتبت لهم النجاة ويقدر عددهم بنحو 400 شخص فقد وصلوا إلى بر الأمان بعد صراع دام أكثر من 20 ساعة مع الأمواج والرياح بينما لم يكن يفصلهم عن الساحل سوى 40 ميلاً بحرياً.
تضاربت الأنباء والآراء حول سبب غرق تلك العبّارة, فهناك من يزعم احتمال حدوث انفجار ضخم نتيجة حريق في جانبها الأيمن أدى إلى اندفاع مياه البحر إلى عنابرها بقوة عنيفة ومن ثم غرقها السريع, ورأي آخر يّرجح حدوث عطل فني توقفت على أثره المحركات عن العمل بشكل تام معللاً هذا الاستنتاج بالحالة العامة المتهالكة للعبّارة. كما تباينت الآراء في تحديد الأسباب للعدد الكبير من الضحايا, فهناك من يشير بأصابع الاتهام إلى قبطان العبّارة وطاقمها, وأصابع أخرى تشير إلى غياب وسائل السلامة وعدم كفاية قوارب النجاة, كما ألقى آخرون باللوم على بطء استجابة الجهات الرسمية المعنية بعمليات البحث والإنقاذ رغم أن العبّارة غرقت على بعد مسافة قريبة من ميناء الوصول. ويرى البعض أن تلك الأسباب مجتمعة أسهمت في الخسائر الكبيرة في الأرواح. مما لا شك فيه أن كل هذه الافتراضات والاجتهادات ستتناولها لجان التحقيق تدقيقاً وتمحيصاً للوصول في النهاية إلى الحقيقة, إذ لا بد من تحديد أسباب تلك الكارثة والأطراف التي تنبغي مساءلتها مدنياً وجنائياً. على أن ملابسات الحادث تدعو بشدة إلى إشراك خبرات دولية ذات مهنية عالية في لجان التحقيق. صحيح أن السفينة مملوكة لشركة مصرية لكنها تحمل العلم البنمي, وشهادات صلاحيتها صدرت من هيئة تصنيف إيطالية, وكان مسرح الحدث في مياه دولية وضحاياه من جنسيات متعددة.
وإلى أن تصدر نتائج التحقيق, لا بد للمرء من أن يتأمل في الوضع الراهن لعمليات نقل الركاب بحراً من وإلى الموانئ السعودية. فاليوم يبلغ عدد المسافرين عن طريق البحر في موانئ المملكة نحو مليوني راكب سنوياً موزعين بالتساوي تقريباً بين ميناءي جدة الإسلامي وضباء مع عدد قليل نسبياً عبر ميناء ينبع التجاري. وتستحوذ حركة السفر بين الموانئ السعودية والموانئ المصرية (السويس, سفاجا, والغردقة) على نسبة 90 في المائة من الركاب, والحصة الباقية لميناء بورتسودان. أما العّبارات التي تعمل بشكل منتظم في نقل أولئك الركاب فيبلغ عددها 20 عبارة أكثر من نصفها تزيد أعمارها على 34 عاماً!
أما بالنسبة لشهادات صلاحية الإبحار التي تحملها تلك العّبارات, فقد صدرت تلك الشهادات لعدد 14 عبارة, أي 70 في المائة من مجموع العبّارات التي في الخدمة، من قبل هيئة التصنيف تلك التي أصدرت شهادة العبّارة المنكوبة (السلام 98)! كما أن جميع هذه العبّارات تعمل فقط بين موانئ البحر الأحمر بمعنى أنها لا ترتاد الموانئ الأوروبية حيث تطبق معايير عالمية قبل السماح لها بالإبحار.
بالطبع تلك الحقائق وغيرها عن وضع سفن نقل الركاب من وإلى الموانئ السعودية لا تدعو للاطمئنان على سلامة أولئك الركاب وأرواحهم. كما أن العوامل التي أحاطت بكارثة الخميس الماضي وإرهاصاتها تكاد تكون جاهزة لتكرار سيناريوهات مماثلة, وحينئذ يجب ألا يكون ذلك مفاجأة لنا إن حدث, لا سمح الله. لكن تُرى ما هو المطلوب؟
بداية كإجراء مؤقت لا بد من إعادة فحص تلك العبّارات بواسطة مساحين وهيئات تصنيف غير تلك التي أصدرت ما تحمله من شهادات وعدم منح أي عبّارة استثناء من الشروط المطبقة في الموانئ الأوروبية بحجة أن رحلات البحر الأحمر تعد رحلات قصيرة أو تحت أي مبرر آخر. كما يجب أن توقف فوراً عن العمل العبّارات غير المستوفية للمتطلبات والمعايير الدولية لنقل الركاب بحراً. أما الإجراء الحاسم فهو منع العبّارات والسفن التي يزيد عمرها على 15 عاماً من العمل في نقل الركاب من وإلى الموانئ السعودية. وهذا الإجراء ليس بدعة, فقد سبق أن خاضت المؤسسة العامة للموانئ السعودية تجربة مماثلة في مواجهة سفن نقل البضائع. ففي عام 1976 عند إنشاء المؤسسة كانت أزمة التكدس في الموانئ قد بلغت ذروتها وبلغ عدد السفن التي تنتظر دورها للتفريغ أكثر من 300 سفينة, وتراوحت فترات الانتظار من ثلاثة إلى ستة أشهر ما دعا الشركات الملاحية إلى استخدام سفن قديمة لشحن البضائع القادمة للمملكة, وقد أدى ذلك إلى ترسيخ التكدس لعدم كفاية معدات تلك السفن في التفريغ والتحميل. ومن ثم اتخذت المؤسسة قراراً بمنع دخول سفن البضائع التي يزيد عمرها على 15 عاماً ولا تحمل شهادات تثبت صلاحية معداتها.
وبالرغم من أصوات الاحتجاج على القرار من قبل بعض الشركات الملاحية وبعض المنتفعين تمسكت المؤسسة بقرارها الذي شّكل خطوة رئيسة في الجهود التي بذلتها الدولة قبل 30 عاماً للقضاء على أزمة الموانئ في وقت قياسي لم يتجاوز خمسة شهور.
اليوم المملكة لا تواجه أزمة في موانئها, ولله الحمد, لكن أوضاع سفن وعبّارات نقل الركاب تتطلب مراجعة شاملة وقرارات حازمة تضع الأمور في نصابها, وليس مستبعداً أن يعترض بعض ملاك ومشغِّلي تلك السفن والعبّارات على قرار إخراج القديم منها من الخدمة, كما أنه ليس مستبعداً أن تزيد تكلفة السفر عن طريق البحر نتيجة لمثل ذلك القرار, لكن كل هذه الأمور لا وزن لها عندما تكون في الكفة الأخرى سلامة الركاب وأرواحهم.