"ابن إدريس الثقافية" .. امتداد لذاكرة وطنية وقامة أدبية

"ابن إدريس الثقافية" .. امتداد لذاكرة وطنية وقامة أدبية
"ابن إدريس الثقافية" .. امتداد لذاكرة وطنية وقامة أدبية
"ابن إدريس الثقافية" .. امتداد لذاكرة وطنية وقامة أدبية

عبدالله بن إدريس رقم ثقيل في معادلة الشعر والأدب والثقافة في المملكة، وفي الوطن العربي عموما. نجح الراحل في نحت اسمه مبكرا في سماء الفكر والإعلام والإدارة، فذاع اسمه في ربوع البلاد، وامتد إلى الخارج من خلال توليه رئاسة تحرير مجلة الدعوة التي حولها إلى منارة ثقافية معاصرة، ناطقة بلسان الحال، في تجربة فريدة حينها في المشهد الثقافي العربي.
يعد الرجل بلا منازع من رواد الأدب السعودي، الذين أفلحوا رغم تعدد جبهات اشتغالهم في ترك بصمتهم الخاصة في كل مجال يقتحمونه، لدرجة يبدو معها - هذا المجال أو ذاك - وكأنه اختصاصهم الوحيد. فأسلوب العمل وفق خطوط متوازية، مكن المبدع عبدالله بن إدريس من تحقيق حضور متميز في مختلف الأبواب التي طرقها، من شعر ونقد وإعلام ... فكانت مساهمته في حقول بعينها تأسيسية، وشكلت في حقول أخرى قيمة مضافة ونوعية.
فضلا عن الشعر الذي كان فيه رومانسي التوجه، نسبة إلى الاتجاه الرومانسي السائد بقوة أواسط القرن الماضي، متأثرا بشكل كبير بالقلق الفكري البارز في أشعار رواد هذا التوجه، مقارنة بكلاسيكيات ورتابة مضامين مدرسة الشعر التقليدية. وقبل ذلك، بنشأته وسط صحراء منطقة نجد، وتكوينه الاجتماعي والثقافي، فالإنسان عامة، والشاعر بوجه خاص، ابن بيئته. وظهر ذلك بجلاء في قصائده، فقد شكلت بمعية قصائد شعراء آخرين، نفسا جديدا بروح تفاؤلية واستبشار داخل هذا الاتجاه الغارق في الانكسار والتشاؤم حد العدمية أحيانا.
كانت مساهمة الراحل في النقد الأدبي مثالا للتفرد في الإبداع، حين أصدر في بدايات مسيرته في الكتابة، أوائل عقد الستينيات، كتاب "شعراء نجد المعاصرون" الذي فتح أعين النقاد والمهتمين بالشعر في أصقاع العالم العربي على هذه المنطقة التي كانت مجهولة عندهم. فانقلب الكتاب رسالة من ابن نجد، عن أحوال الشعر في بلاد نجد، إلى العرب قاطبة، فتحت أعينهم على تجربة شعرية مميزة، تفوح بها نسائم الصحراء.
بفضل مؤلف ابن إدريس سطع نجم الأدب السعودي، ولا سميا الشعر، خارج حدود الجزيرة العربية، في وقت مبكر. فجهوده، كما قال أحدهم، أشبه بـ"خميرة جديدة استطاعت أن تفرز رغيفا شهيا خدمة لأفواه جائعة... تلك التي كانت تبحث عن لقمة فكرية مناسبة". وخير شاهد على ذلك، قدرة أعمال الرجل على إقناع أديب من طينة عباس محمود العقاد، عبقري اللغة العربية، بقيمة الأدب السعودي.
صقل تعدد الاهتمامات الثقافية والمشارب الفكرية شخصية الراحل، ما انعكس على أدائه كان رئيس تحرير مجلة "الدعوة "، فكان المنبر قناة صهر المبدع في صفحاته تكوينه الشعري والأدبي، وقدمه مواد صحافية، وكأنها طبق شهي، تجذب مزيدا من القراء من المحيط إلى الخليج. فقد نالت المجلة الدينية تحت رئاسته مزيدا من الاهتمام، لما اتسمت به من مقاربة مختلفة مع جرأة في الطرح، وقدرة فائقة على الاشتباك مع أعقد المواضيع بمرونة وسلاسة رائعين.
تجربة كتب عنها نجله إدريس قائلا: "تولى والدي رئاسة تحرير جريدة الدعوة، وجعلها في حينها صحيفة لافتة بنهجها المغاير للسائد عن الصحف الملتزمة، وتميزها أيضا بشيء من الجرأة والشفافية، ولتميزها أيضا بالتنوع المنسجم مع شخصيته المتسامحة، فلم تركن الدعوة إلى التقليد والمنهج النمطي السائد، ولكنها كانت فريدة في شكلها ومحتواها بصورة جعلتها صحيفة مقروءة، يعتد برأيها ورصانتها ونوعية كتابها. وعندما قام الوالد وزملاؤه بتبويب جريدة الدعوة في بداية صدورها وضع ضمن أبوابها الرئيسة صفحات رياضية، وصفحات للمرأة، وثالثة للطرائف والملح، ولك أن تتخيل جريدة تصدرها مؤسسة محافظة ترضى أن تركض خلف الكرة، وتخص المرأة بصفحات تهتم بشؤونها وشجونها، والثالثة أنها صحيفة جادة لكنها تدع مساحة محسوبة للطرائف والملح".
شخصية بثراء وتنوع وعطاء يستحق أن يحتفى به، ليس فقط ذكرى عابرة، بل مناسبة سنوية تتجدد حفاظا على اسم ومنجز الرجل في الذاكرة الجماعية لأبناء وبنات الوطن. لأجل تلك الغاية النبيلة قررت مؤسسة عبدالله بن إدريس الخيرية، في مؤتمر لها أغسطس الماضي، إطلاق "جائزة الشيخ عبدالله بن إدريس الثقافية" التي تأتي، وفق ما جاء على لسان رئيس مجلس أمناء المركز، "انطلاقا من أهداف مركز عبدالله بن إدريس الثقافي القائمة على تعزيز العمل الثقافي، عربيا وعالميا، وتحقيقيا لمستهدفات رؤية المملكة 2030، وتعزيزا لتوجهات وزارة الثقافة".
على غرار مسيرة المبدع متعددة الجبهات، قررت إدارة المؤسسة تقسيم الجائزة إلى ثلاثة أفرع أساسية، هي: أولا "فرع القضايا الوطنية". ثانيا "فرع التحديات المعاصرة". وأخيرا "فرع المعارضة الشعرية". في ذلك إشارة قوية، من الساهرين على الجائزة، مفادها اقتفاء التتويج باسم عبدالله بن إدريس أثره في الحياة، فكثرة فروع الجائزة إحالة مباشرة على مسار ومسيرة المبدع الذي تحمل الجائزة اسمه.
ما أحوج الشعوب العربية لهكذا مبادرة، تحفظ اسم أديب أو شاعر أو فنان أو غيرهم من أسماء أسهموا بحسب موقعهم في صناع تاريخ أوطاننا، لأن ذلك تثبيت مبدأ فرنسي ذائع الصيت، هو "الحق في الذاكرة"، هكذا يحرصون غاية الحرص على حماية ذاكراتهم بتخليد رموزهم ومفكرين بمؤسسات ومنحوتات.. مقابل الحرص على محو ذاكرتنا بمختلف الطرق والأساليب.

الأكثر قراءة