أرسكين كالدويل .. غواية الكتابة تتحول إلى فعل وجودي
يحدث أن تنتهي صفحات عمل أدبي تاركة في الذاكرة زوبعة من الأسئلة لا عن الشخصيات والأحداث والسرد، بل عن عقل الكاتب، والسر وراء القدرات الإبداعية التي تنسج خيوط روائع أدبية دخلت قائمة التحف الإبداعية الخالدة. كان هذا حال القراء والنقاد مع روائع الروائي الأمريكي أرسكين كالدويل (1903 - 1987)، إلى أن تطوع للإجابة، وبشكل مفصل، في كتاب بعنوان، "كيف أصبحت روائيا؟" (ترجمة أحمد عمر شاهين/ دار الهلال)، قدم فيه رحلته منذ انطلاقته في درب الكتابة إلى أن صار مؤلفا عالميا، بأسلوب واضح ومباشر، "ما يمكن أن تجده في هذا الكتاب هو جماع خبراتي كمؤلف وليس تاريخا شخصيا خاصا".
اعتراف يكفي وحده لإغواء القارئ للاطلاع على تجربة كاتب يدخل نسبيا إلى دائرة النسيان، وإن لم يكن أهلا لها، فهو كاتب إنساني لم يقدم قط في أدبه دروسا في الأخلاق، ولم يصنف الناس تبعا لمواقفهم وأفعالهم. فضلا عن تحريه الصدق ومطلق الدقة في السرد، بنقل مجريات الأحداث من الواقع لا من نسج عوالم الخيال، "كتبت هذا الكتاب من الذاكرة والمفكرة، وحاولت أن أستدعي الأحداث والأحاديث كما وقعت قدر ما استطعت".
مزج كالدويل في الكتاب ما بين اليوميات والسيرة والمذكرات، ليقدم تفاصيل رحلته في عالم الكتابة، في الثلث الأول من القرن الماضي، بتواضع وحياد كبيرين، دون عنتريات ولا تضخم للأنا، وبمفاصلة كبرى بين حياته ككاتب وحياته الشخصية، فلا ذكر لأي تفاصيل ولو صغيرة عن حياته الشخصية أو الأسرية أو مغامراته العاطفية أو حتى الأحداث السياسية مهما كانت مهمة. فأقسام الكتاب الثلاثة أشبه بورشة تكوينية عن كيفيات ومهارات الكتابة، أو لنقل عصارة حياة مع القلم والحرف، كما جاء على لسان الكاتب "إنه الكفاح لوضع كلمات على الورق تحمل روح الحياة وإحساسها المراوغ، ومحالة لا نهائية للوصول إلى المعاني المحددة".
الصحافة كانت البداية
انطلقت المغامرة بالعمل مراسلا محليا بالقطعة لصحيفة "الكرونيل"، على الرغم من أنه لم يكن يطمح لاتخاذ الصحافة حرفة حياته، لكن "العمل في الصحيفة هو الكتابة، وذلك ما أردت أن أتعلمه". اشتغل بعدها في مراجعة الكتب لصحيفة أخرى مقابل الاحتفاظ بالكتب التي قام بمراجعتها، واستطاع إنشاء خزانة كاملة من هذه الكتب الحديثة التي وصلت في مجملها إلى 2500 كتاب.
أتقن كالدويل حرفة الكتابة الصحافية، لكنها لم تكن الكتابة التي يسعى وراءها، فقرر التفرغ للكتابة الإبداعية، عملا بنصيحة محرر صحافي، "عد إلى مدينتك واكتب عما يحدث أمام ناظريك، وحول مشاهداتك إلى حدث مثير، المهم هي الطريقة التي ترى بها الحدث وتكتب عنه". موقف أثار استهجان وسخرية رئيس التحرير بقوله، "الصحافة وحدها هي التي تجعل الحياة تستحق أن تعاش... أنت أذكى من أن تنصرف إلى كتابة الكتب".
وفاء للكتابة التي صارت فعلا وجوديا بالنسبة إلى الكاتب، وبلا مبالاة، ابتعد عن المدينة وتفرغ للكتابة، على أمل تكرار تجربة الصحافية اللامعة مارجريت ميتشل (1900 - 1949)، التي غادرت الصحافة، بكل شجاعة وثقة، في أوج تألقها وعطائها، من أجل الاعتكاف على رواية خططت لها منذ أعوام، فكان الحصاد بعد حين رائعة "ذهب مع الريح" (1936).
بحث عن الانطلاقة
"كنت أكتب من عشر إلى 12 ساعة يوميا، أكتب قصة وراء قصة، أراجع وأصحح وأكتب ثانية بتصميم الكلاب بغض النظر عن الوقت أو الإرهاق"، هكذا يصف كالدوين بداياته مع الآلة الكاتبة، في غرفة بلا مدفأة، تجبره على التوقف من حين إلى آخر قصد النفخ في أصابعه المنملة بالبرد. فشكا الأمر إلى مالكة البيت التي ردت عليه بشكوى مضادة من ضجيج الآلة الكاتبة في الثانية أو الثالثة صباحا، قائلة، "إن الناس الأمناء الذين يعملون بجد يذهبون إلى أعمالهم نهارا بدل المكوث في البيت والخبط على الآلة الكاتبة طوال الليل، وتمنت بشدة أن أجد عملا أو انتقل إلى مكان آخر".
رغم التقشف في السكن والأكل، لدرجة تناول علبة فاصوليا ثلاث مرات في اليوم، بدأت مدخرات الكاتب تنفد، فشرع في بيع ما تجمع لديه من كتب نظير مراجعتها، "كنت حينما أحتاج إلى نقود، ألجأ إلى الشيء الوحيد الذي يمكن عمله، وهو أن أملا حقيبتين من الكتب.. وأركب الحافلة متجها إلى مكتبة للكتب المستعملة في بوسطن، ربما لا أكون أنا الذي ابتدعت عملية بيع الكتب بربع دولار للواحد، لكني أعتقد أني أسهمت في المساعدة على أن تبدأ هذه التجارة بشكل جيد في بوسطن".
رغم أن تكلفة البريد أصبحت أكثر من تكلفة الطعام والسجائر، فالخيبات من جراء التلقي السلبي لقصصه لم تتوقف، ما دفع الكاتب إلى فتح مكتبة لبيع ما لديه من كتب، ولا سيما أنها حديثة، بثمنها الحقيقي بحثا عن مورد مالي، قبل أن يستقر لديه اليقين بأن هدفه "كتابة الكتب لا أن أشتري الكتب يوما ثم أعود لأبيعها في اليوم التالي".
لم تنكسر عزيمة الكاتب أمام طوفان الإحباط، لدرجة أن محرر مجلة كلف نفسه بتحرير خطاب طويل ينصحه فيه بالإقلاع عن كتابة القصة القصيرة، قائلا، "إن من رأيه أني لا أستطيع أن أحقق نجاحا في هذا المجال، وإن إصراري العنيد ربما يجعل فشلي المحقق صعبا على التحمل". وجاء الفرج أخيرا، بعد ستة أعوام، سيتلقى الرد بقبول أول قصة قصيرة للنشر، ما جعل خيبات الأمل المتراكمة في ذاكرته تنمحي فجأة.
الرواية بوابة المجد
قرار كالدويل التوجه نحو الرواية نابع من قناعة أنه لن يقتنع بعمل من أعماله ما لم يكتب رواية طويلة، تدور أحداثها بالضرورة حول الفلاحين المستأجرين للأراضي والعائلات التي تتقاسم المحصول. "شعرت أني لن أتمكن من الكتابة بنجاح عن أناس آخرين، إلا إذا كتبت أولا قصة العائلات المزارعة التي لا تملك الأرض، وحياة الفقر المدقع الذي تعيش فيه".
لأجل ذلك الهدف، عاد إلى الريف مجددا موزعا يومه بين قطع الأخشاب خلال النهار، وزراعة البطاطس عند الغروب، والكتابة أثناء الليل، "أردت أن أحكي قصة الناس الذين عرفتهم، وطريقة الحياة التي يعيشونها بالفعل من يوم ليوم وعام لعام، أحكيها بغض النظر عن موضات الكتابة أو الحبكات التقليدية، وبدا لي أن الأكثر أصالة والمادة الأساسية للخيال هم الناس أنفسهم".
في المساء كنت، أكتب ما أراه خلال النهار، لكن في كل ما كتبت لم أنجح في التعبير عن المعنى الكامل لما رأيته من الفقر واليأس والإحباط. "أنهض قبل الظهر، وأبدأ الكتابة، كانت الرواية حية في ذهني حتى أني لم جد الوقت لقراءة ما كتبته في اليوم السابق، واعتدت أن أتوقف عن الكتابة ساعة قرب المساء لأتناول شوربة العدس، وأتجول قليلا في الشوارع، ثم أعود إلى استئناف الكتابة حتى الثالثة أو الرابعة صباحا".
عزيمة وإصرار لم يذهبا سدى، فالثمرة كانت رواية "طريق التبغ" (1932) التي تنقل بشكل مؤلم حد الهزل أحيانا، واقع الحياة الريفية لجنوب الولايات المتحدة، بأسلوب غاية في الروعة، بحكم عنصر المعايشة، "لقد مشيت في تلك الدرب المسماة طريق التبغ، في صميم فصل الشتاء، ورأيت الناس الجائعين الملتفين بالأسمال البالية يذهبون إلى اللامكان هم الآتون أصلا من اللامكان، ملتمسين الطعام والدفء، راغبين في أن يعرفوا ما إذا كانت أشياء مثل الطعام والدفء، لا تزال موجودة في بقعة ما من بقاع العالم".
بعيدا عن البطولة، تحدث الكاتب في النهاية عن خلاصات تجربته، مؤكدا أن "أفضل طريقة لتعلم الكتابة هي الكتابة نفسها". مع الإصرار عن تفرد تجربة الكتابة في حد ذاته، فـ"العمل الجسدي المرافق لعملية الكتابة هو وضع مخالف للطبيعة البشرية، فهو يعني الجلوس مقيدا، معتل المزاج طوال النهار أو الليل وراء طاولة أو مكتب أو آلة كاتبة". لكن الشخص الذي لديه إرادة أن يكتب يستطيع دائما أن يجد الفرصة، أما أولئك الذين لا يعنيهم البحث عن هذه الفرصة، فإنه تكون لديهم، عادة، اهتمامات أخرى، سواء كانوا يدركونها أم لا، وهي أكثر قربا لهم.