تقييد الفتوى في مسائل الاجتهاد وحصرها على أهل العلم والاجتهاد
أسس الاختلاف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد، فقد كتب الدكتور حمزة السالم يوم الأربعاء 22 رجب 1430هـ في صفحة الرأي مقالاً عنوانه: ''في توحيد الفتوى''، أنكر فيه الدعوة إلى توحيد الفتوى، وهذا حقٌ أوافقه عليه، ولكن بعد تقييد الفتوى في مسائل الاجتهاد، وحصرها على أهل العلم والاجتهاد. ثم نقل قولاً لجمع من العلماء في الدرر السنية نصه: (لا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ، رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين، فإنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه واستمرت عليه الفتوى منهم، فمن خالف في شيء من ذلك واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلوماً عندهم ومفتىً به عندهم ومستقرة به الفتوى بينهم فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله). فأخطأ في فهمه له، وأساء في حكمه عليهم. فمرادهم أن من خالف في أصول الدين التي نزل بها القرآن، وجاء بها الرسول، وكان عليها الصحابة والتابعون وأهل السنة والجماعة، وعليها أئمة الدعوة وآل الشيخ، فصحح الشرك، وجعل أهله على خير، فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. ومن خالف في الفروع في مسائلٍ ضعُفَ فيها الخلاف واستقرت فيها الفتوى عندهم، فيرد قوله وينكر عليه، لما في ذلك من المصالح، فالخلاف شر، ولهم في ذلك سلف صالح. ويشهد لخطأ فهمه مخالفتهم الإمام محمد في مسائل، واختلافهم في مسائل، ورفضهم تقنين الشريعة، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بعد أن خالف جده في مسألة: (فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة لقول كائن من كان، وأهل العلم معذورون). ولتوضيح ما ينكرونه ولا يرتضونه من الفتاوى أقول مستعينا بالله: الخلاف له حدود وضوابط لا يتعداها، فلا يصح إلا في مسائل الاجتهاد، وهي التي لا نصَّ صحيح صريح فيها من الله ورسوله، ولا إجماع فيها فالأمة لا تجتمع على ضلالة. والاجتهاد أيضا لا يصح إلا من أهله من العلماء، فالله تعالى وجه بسؤال العلماء، ونهى أن يُقال في دين الله بغير علم، قال تعالى: (قل إنما حرَّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم يُنزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقال سبحانه : (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون). والعلماء المرضيون في علمهم ودينهم، حين يجتهدون في مسائل الاجتهاد منهم من يصيب، وله أجران، ومنهم من يخطئ وله أجر، ومن زاغ منهم فقال لدنيا وهوى، فلا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وقد اشتد غضبه - صلى الله عليه وسلم - على المفتين بغير علم، وقال الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا زياد هل تدري ما يهدم دعائم الإسلام ؟ قلت لا. قال زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين. ومسائل الدين تتفاوت، فمنها ما الخطأ فيه من العالم والمقلد يوقع في الكفر، ومنها ما يوقع في البدعة، ومنها ما يوقع في الكبيرة أو الصغيرة، ومنها ما المخطئ فيها معذور. فليس كل مخطئ معذورا عند الله تعالى، قال تعالى ذاماً لقوم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) وقال تعالى عن آخرين: (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)، بل الحكم بالعذر وعدمه، والإنكار والتسامح، يرجع إلى بلوغ الحجة في مسائل، وإلى بلوغها وفهمها في مسائل، وإلى قوة الخلاف وضعفه في مسائل، وممن أخذ الفتوى وصلاح النية عند طلبها، والله عليم خبير. ولهذا الإنكار والتسامح مع المخالف درجات تتفاوت بتفاوت وضوحِ المخالفة للكتاب، والسنة، والإجماع، والجمهور. وبتفاوت أهمية المسألة، ومحلِ تعلُقها، أهو بالواجب والحرام، أم المندوب والمكروه.
والحقُ في مسائل الخلاف وسطٌ، بين فريق بالغوا في تقييده فالتزموا بالمذهب والشيخ وإن كان الدليل الصحيح مع المخالف، حتى قال بعضهم: كلُ آية وحديث يخالف المذهب فمنسوخ أو مؤول. وفريق على الطرف الآخر، توسعوا وتجاوزوا، فأدخلوا فيه الخلاف في أصول الدين، والخلاف مع فرق البدعة والضلالة، والخلاف المخالف للنصوص الصحيحة الصريحة، والخلاف الشاذ، فكل ذلك عندهم خلاف مقبول، ورأي آخر مسموع. وهذا الفريق له دعاة اليوم، يبحثون في كل مسألة عن قول يوافق هواهم، ويصحح أعمالهم، فيوم هم أهل سنة وحديث، ويوم أهل رأي وقياس، ويوم ظاهرية، ويوم معتزلة، ويوم خوارج، ويوم روافض. وصاحوا على من أنكر عليهم خطأهم، فقالوا: لا إنكار في مسائل الخلاف، وهذا حقٌ ولكن بعد تقييده بمسائل الاجتهاد من أهل الاجتهاد. وقالوا: الناس لهم عقول يعقلون بها ويميزون، فدع كلٌ يقول ما شاء، وزمن الحجر على العقول مضى وراح. وهذا حقٌ مُزج بباطل، فهل من الشرع والعقل فتح باب الشبهات والشهوات على الناس ؟ الله أعلم وأرحم بالعباد، فلهم أهواء وشهوات، وهم ليسوا سواء في عقولهم وعلومهم، وفي ورعهم وأخلاقهم، فالخمر حرام فلا تباع، والزندقة كفر فلا تذاع، والبدعة ضلال فلا تشاع، والأقوال الشاذة التي توقع الناس في الكبائر والحرام، من زنا وربا، وقتل وسحر، ينكر على قائلها، ويجهل صاحبها. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب: ''أما قول من قال لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة. فإن أراد القائل: مسائل الخلاف كلها، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة، فما زال الصحابة، ومن بعدهم، ينكرون على مَن خالف وأخطأ كائناً من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم... مَن خالف محمد صلى الله عليه وسلم مِن العلماء فهو مخطئ، يُبيَّن له خطؤه، ويُنكر عليه. وإن أُريد بمسائل الاجتهاد: مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح''. وقال: ''ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج''. وقال الشيخ سعيد بن حجي: ''فقد علمت، رحمك الله: أنه لا يُنكر إلا ما خالف كتاباً، أو سنة، أو إجماعاً، أو قياساً جلياً على القول به، أو ما ضعُفَ فيه الخلاف''. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم حين أفتى البعض أن الأوراق النقدية حكمها حكم عروض التجارة، فلا يجري الربا فيها، ولا تجب فيها الزكاة إلا إذا أعدت للتجارة: ''ولا أفتى بهذا إلا بعض الجهال، فإذا جعلت - الأوراق النقدية - عروضا، والمال محبوب تركت الزكاة''.
وفي الختام أذكر نفسي والدكتور حمزة والمسلمين بقول الله تعالى: ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب وأُخَرُ متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله )، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
د. صلاح بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ
خطيب جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب