ثقافة وفنون

يوميات أسيرة هولندية في المغرب

يوميات أسيرة هولندية في المغرب

تبقى أهم ملاحظة قسوة الكاتبة على أبناء وطنها.

يوميات أسيرة هولندية في المغرب

يبدأ التحول في حياة الكاتبة وزوجها بعد تعرض سفينتهما للهجوم قبالة الشواطئ البرتغالية.

نجحت الكاتبة الهولندية ماريا تير ميتلن، في تصوير جوانب دقيقة من أحوال مغرب النصف الأول من القرن الـ18، في يوميات أو مذكرات اختارت لها عنوان "اثنتا عشرة سنة من الاستعباد - رحلة أسيرة هولندية في بلاد المغرب 1731 - 1743"، بتقديم رواية أخرى للأحداث، بعيون أنثى أجنبية، لما جرى في مغرب بداية حكم العلويين من اضطراب وسيبة وفوضى أرهقت بتداعياتها العباد والبلاد.
زمنيا، حررت ماريا تير ميتلن، يومياتها بعد مضي خمسة أعوام على انفكاكها من الأسر، وعودتها من المملكة المغربية إلى مملكة الأراضي المنخفضة، وعلى وجه التحديد في 1748، وبقي النص مخطوطا لنحو قرنين من الزمن، قبل أن يصبح كتابا امتزج فيه أدب الرحلة بالسيرة وفن اليوميات، صدر لأول مرة، باللغة الهولندية في 1933، وبعدها باللغة الفرنسية 1957، ثم باللغة الإنجليزية 2010، وأخيرا باللسان العربي في 2018.
بدأت الكاتبة، في سن مبكرة، مغامرة التجوال في رحاب القارة الأوروبية، وكان تحول مسار رحلتها البحرية، بمعية زوجها، من ميناء إشبيلية صوب سان لوكار "شلوقة" منعطفا قلب حياتها رأسا على عقب، بعد تعرض سفينتهما للهجوم قبالة الشواطئ البرتغالية، تولد عنه وقوعها، مع هولنديين آخرين، في الأسر لدى قوات السلطان المغربي. لتبدأ معارك ومغامرات ماريا داخل دهاليز القصور في مدينة مكناس، بسبب صراع أبناء المولى إسماعيل بن علي الشريف على السلطة، وخارجها مع الباشوات والأعيان أولا، ثم مع بعض الجاليات الأوروبية في المغرب.
بعيدا عن المتن السردي، سجل الكتاب التميز لجهتين، إحداهما تحريره بقلم نسوي، في زمن كان فيه حضور النساء محتشما، فبروز الكتابة النسائية في المغرب متأخر نسبيا حتى أواخر القرن الـ19 مع أقلام فرنسية في منطقة الحماية، وأخرى إنجليزية في منطقة طنجة الدولية. والأخرى، أن النص الروائي يقدم منظورا آخر عن مغرب القرن الـ18، ولأهم الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي استرعت انتباه الأوروبيين.
وبدا ذلك واضحا في هذه الرحلة، فقد تجاهلت ماريا الاستغراق في وصف الأماكن والأشخاص التي توردها في النص. يعزى الأمر ربما إلى طول مقامها في المغرب "12 عاما"، كما قد يفسر بتركيزها على الأحداث العامة والخاصة التي نسجت تفاصيل حياتها كأوروبية أسيرة لدى الملوك المغاربة. خاصة ما تقاطع مع ما خاضته من مغامرات، بحثا عن الحماية والحظوة لدى كل من تعاقبوا على العرش، خلال فترة أسرها، سعيا نحو الانعتاق من قيود العبودية.
تسرد الكاتبة في ثمانية فصول تفاصيل تجربة عقد من العبودية في ثلاثينيات القرن الـ18 في المغرب، بدءا من العقبات التي تجاوزتها قصد الزواج، ممن اختارته وفاء لدينها، بعد وفاة زوجها الأول. فرضت، رغم التهديد تارة والوعيد أخرى، اعتناق الديانة الإسلامية، فاهتدت إلى حيلة الحمل للفكاك من رغبة الملك التحاقها بزمرة حريم السلطان، كما فضلت الزواج من رجل هولندي، ولو "كان يملك فقط القميص الذي على ظهره على إسباني أو فرنسي بحوزته رأس مال ملكي".
كان تقلب ماريا في الوظائف والأعمال قرين تقلب أحوال العرش المضطربة، لدرجة أن احتدام الصراع شهد تنصيب أربعة ملوك واحدا تلو الآخر في يوم واحد. وهكذا تراوحت ما بين الاشتغال داخل القصر بمرافقة الملك وحاشيته "زوجاته وأمه وأخته"، وبين العمل مع زوجها على تسيير شؤون مقهى خاص للأجانب وعلية القوم من المغاربة، في المدينة. ما جعل مصيرهم ومعيشتهم معلقا على من يجلس على العرش، "تم إلقاء القبض على الملك في منتصف الليل، ووضعت له الأصفاد، فوجدنا أنفسنا مرة أخرى بلا ملك".
وزاد الجفاف وانحباس المطر أوضاع البلد سوءا، فاشتد الحال على المغاربة قاطبة، وبشكل أخص على الأسرى الأجانب، فشهدت البلاد فترة غلاء يرثى لها، امتدت من 1737 حتى منتصف 1738، قضى خلالها 48 ألف نفر، بسبب انتشار المجاعة بشكل رهيب في ربوع البلاد، فقد تحدثت الأسيرة عن هول المصاب بقولها، "من الصعب أن أصف ما كنت أراه وأسمعه يوميا، لم نكن نستطيع شراء أي شيء من السوق دون أن نحاط على الفور ببعض الجوعى البؤساء الذين كانوا يتربصون بنا، كما كان يفعل الأسد بضحيته".
وتنقل في مشهد مرعب صورة عن أحوال المغاربة في مواجهة الجدب والقحط، "كان الأحياء يفترسون الأموات، بل أكلت الأمهات أبناءهن، ولم يتبق لا كلب ولا قط، الكل تم أكله. كما كان الناس يخرجون عظام الحيوانات من الأرض، ويسحقونها بين قطعتي حجر، ويبتلعون دقيقها مع جرع من الماء، كما أكل الناس أسمنت الحيطان والتبن، كما البهائم، بسبب انعدام العشب".
وعن استحكام الأساطير في تدبير أحوال الملك في المغرب، تحكي عن طقوس عيد الأضحى خلال فترة حكم السلطان مولاي علي الأعرج، فالعادة تقضي بإقامة طقوس الذبح على تل خارج المدينة، ثم يوضع الكبش فوق بغلة سريعة الهرولة، لكي تحمله بأقصى سرعة إلى القصر، "لكن البغلة عثرت هذه المرة في الطريق، ولاحظها كبار الدولة كلهم. لذلك طأطأوا رؤوسهم، وتنبأوا بأن حكم نهاية الملك وشيكة جدا، وهو ما حصل فعلا".
ما يتعلق بأخبار وأحوال المغرب يبقى متداولا في كتب التاريخ، لكن أسرار وخبايا ما وراء أسوار القصور تظل قيمة مضافة ونوعية في هذه المذكرات، ولا سيما أن الكاتبة استطاعت أن تصنع لنفسها مكانة بين يدي الملك، ما فتح عليها جبهات الصراع وأكثر المتربصين بها. "جعلني ذيوع صيت حظوتي الكبيرة لدى الملك أحرز شهرة كبيرة في البلد، لدرجة أنه إذا كانت لسكان البوادي شكاية، كانوا يتوجهون إلي، وهم محملون بالهدايا، لكي أعرض على الملك شكواهم. لكن الله أنار قلبي، وكنت أتذكر أني مجرد أسيرة، فكنت أوجههم إلى الباشوات، بحيث لم يجدوا أي سند لدي".
يقف القارئ في ثنايا السرد عند قصة امرأة قوية وشجاعة، مع انطباع بالمبالغة طي الحكي لدرجة التباهي بالنفس أحيانا، فكتب تقول في سعيها للوقوف بين يدي الملك الجديد طلبا للعطف والرحمة، "كنت أعول على أن تدور عجلة الحظ. لم أجزع، لأنه لا شيء أسوأ من الموت ينتظرنا، لكني كنت المرأة الحكيمة، وأنا وحدي من كنت أتوافر على قليل من التبصر".
وتبقى أهم ملاحظة قسوة الكاتبة على أبناء وطنها، "هنا ليس الكفار أو المسلمون من أقضوا مضجعنا، وإنما تمت مضايقتنا في الأغلب من قبل بعض الرعاع وبعض الأنذال من أبناء وطننا". وكتبت في سياق آخر، "لا أتحسر على أني كنت في ذلك المكان البعيد من العالم، ولا على 12 عاما من الاستعباد، ولا على الأذى الذي سببه لي المغاربة. ذلك كله يمكنني نسيانه، لكن ما لن أنساه هو الإهانات والشتائم التي كنا عرضة لها أنا وزوجي، من قبل إخوتنا أبناء الوطن، من الصعب علي أن أحكي هنا كل ما ألحقوه بنا من سوء".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون