ثقافة وفنون

"تغريبة القافر" لزهران القاسمي .. الماء سبيلنا للموت والحياة

"تغريبة القافر" لزهران القاسمي .. الماء سبيلنا للموت والحياة

"تغريبة القافر" لزهران القاسمي .. الماء سبيلنا للموت والحياة

"الإنسان مهما حاول أن يكتشف كل ما يحيط به هو في الحقيقة يبحث عن شيء داخله."

في عالم تحكمه المياه، وبين حفر الأفلاج في القرى العمانية، وولادة أسطورية من رحم أم غارقة، يقص الكاتب العماني زهران القاسمي أحداث رواياته "تغريبة القافر"، الصادرة عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع الشارقة، والمرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لـ2023.
لا يختلف اثنان على أن لا حياة من دون ماء، هو المحرك الأساسي والنابض الخفي لأرواحنا الحية، وقد برز حضوره في الروايات العربية والخليجية على وجه التحديد، وكان عاملا أساسيا أسهم في استنطاق هذه الروايات لواقعها، فالعمل الروائي ليس مجرد رصف عبارات ورسم شخصيات بقدر ما هو القدرة على امتلاك فن التعبير عن فئة من الناس ضمن فترة زمنية معينة دون أن تخدش حكاياتهم حياء الواقع.
وفي روايته "تغريبة القافر" يحاول زهران القاسمي أن يلفت نظرنا إلى مقدرتنا على اكتشاف أشياء كنا نعتقد أننا لن نقترب من حقيقتها مطلقا، ويمنحنا القدرة على التواصل مع الآخرين. نعرف ونلمس ونتتبع أثر الماء، فمن الماء ولدت هذه الرواية، ومنه توالدت حكاياتها أيضا. في الرواية نكاد نقترب من حقيقة أن الماء يوجد الحياة والموت معا، أو لربما الموت هو حياة أخرى، إنها رواية خاصة بأبعاد فلسفية تطرح أسئلة الحياة الوجودية وتحاول سبر أغوار الموت والحياة والحب.

الماء الشخصية المحورية
في "تغريبة القافر" كل الحكايات تؤدي إلى الماء، فمصائر الشخصيات مرتبطة به ارتباطا وثيقا، بدءا بموت أم سالم غرقا، وانتهاء بسالم الذي صار يسمع صوت الماء في كل مكان، وكأنه حارسه الذي لا ينام، حتى بات الماء الشخصية الرئيسة التي تنبثق منها حكايات عن بيئة عمان الساحرة، هذه البيئة التي عرف زهران القاسمي كيف يسرد قصصها الواحدة تلوى الأخرى بأسلوب ساحر ولغة عذبة تشبه في نقائها الماء الذي نرى من خلاله صفاء الأشياء، متحدثا عن الحب في لحظاته الأولى، وعن عمان، تاريخها، جغرافيتها، وكل ما يميزها.

الحبكة والشخصيات
يفتتح الشاعر والروائي العماني زهران القاسمي روايته بمشهد سينمائي آسر تختطفه شخصيات عابرة، لكل منها علامتها الفارقة التي لا تنسى. وتبدأ القصة حين تستيقظ القرية على نداء مفزوع يعلن موت أحدهم غريقا في إحدى آبار القرية. يتجمع البسطاء خائفين على أولادهم ثم يتبين أن ضحية البئر العميقة هذه المرة هي مريم بنت حمد ود غانم التي أصابها ما يشبه لوثة في أيامها الأخيرة، على إثرها عانت ألما غير مسبوق في رأسها وفشلت جميع الأدوية والوصفات الشعبية في إنقاذها، باستثناء قرب المياه التي كانت بمنزلة العلاج الوحيد القادر على تخفيف الألم، لتنتهي بها الحال إلى هذه النهاية الحزينة.
من هنا تبدأ خيوط الحبكة ترتسم لتعلن ولادة أسطورة تصنع الأساطير مع التطور الدرامي للحبكة، الطفل سالم، الذي عرف طريقه إلى الحياة بعد أن اكتشفت عايشة بنت مبروك خالة الغريقة أن مريم الميتة حامل، ويجري النقاش حول أحقية ولادة الطفل أو تركه يموت إلى أن تأخذ كاذية بنت غانم القرار بفتح بطن الأم واستخراج الجنين ليكبر بعد أن تجد له أما بديلة ترضعه حليب صدرها.
ولد بطل الرواية بعد غرق أمه في إحدى الآبار في الوقت الذي كان فيه والده عبدالله بن جميل "البيدار" يعمل في الضواحي، وعاش حياته يقتفي أثر المياه ويشق الأفلاج في القرى البعيدة في الصحراء حتى تعود إليها مظاهر الحياة، وعلى الرغم من أن المياه سبب هلاك والدته، إلا أنها تتحول إلى مصدر حياة مع القافر الذي يسير في أي مكان فتسمع أذناه خرير المياه ويدل الناس على الأماكن التي سيجدون فيها المياه في باطن الأرض.

مريم والماء
من هي مريم؟ وما الذي تخفيه الحبكة عن قصتها مع الماء؟ ولماذا كانت تدخل رأسها في عمق البئر؟ هذه الأسئلة وغيرها يتوالى السرد الراقي والمنمق الذي ميز أسلوب القاسمي بالرد عليها تباعا، فمريم الغريقة كانت أفضل من يطرز الثياب في قرية المسفاة، لديها صداع دائم، وقد كوى المداوي رأسها ليبرئها مما قدر أنه الشقيقة، لكن الصداع لم يكن ليتبدد إلا حين تدخل مريم رأسها في عمق البئر، قبل أن تدفنه في الدلو. وطالما حلمت مريم بحبل البئر، حتى إذا أفاقت فجرا، ومضت إلى البئر، أمسكت بالحبل مستجيبة للهمس الذي يناديها من أعماق البئر، "تعالي تعالي". وبهذه الميتة، ثم بالدفن حيث لا يفتأ المطر يملأ القبر، كما بولادة الطفل سالم، تبدأ الغرائبية تلعب في الرواية.

الحب والطبيعة
ويلمح الكاتب إلى أن الإنسان مهما حاول أن يكتشف كل ما يحيط به هو في الحقيقة يبحث عن شيء داخله، فإن لم يعثر عليه، لن يتوافر له ذلك الاستقرار الروحي مهما بذل من جهد. لربما هذا ما كان يبحث عنه القافر، حقيقة الأشياء التي تنبع فقط داخله إن أجاد الإصغاء لها. يقترن حضور الطبيعة بتجليات الحب في الرواية. أحب سالم نصرا وسكنت في داخله مثل سكون الينابيع في قلب الحجر عندما رأها لأول مرة، وتزوج منها، لكن "الخافر" كما لقبته كاذية بنت غانم قد اختفى بعد زواجه بنصرا، وأشيع أن أهل الأرض السفلية أخذوه من الفلج وقيدوه في بلادهم حيث لا موت ولا حياة.

نصرا والأفلاج
طال اختفاء سالم ولا أحد يعرف عنه شيئا، وقد ألح أهل نصرا عليها بالزواج مجددا، لكنها كانت ترفض، وبما أنها كانت تغزل الصوف كل يوم، قررت أن تسمي كل خيط تغزله باسم واحد من الأفلاج التي دخلها زوجها. وقد سمت خيطا بـ"العفريت" لأنها سمعت حكاية فلج العفريت الذي يقال إن عفاريت من الجن شقوه في ليلة واحدة. وكان كل خيط يستغرق أشهرا، "وكل حكاية تنسجها تكبر وتكبر، الخيوط تتوالد، والأفلاج تتكاثر، والأسماء التي تمنحها إياها لا تنسى ولا تتشابه". وبذلك امتدت عدة نصرا بعد ترملها، فدأبت على القول، "من يقول لي المغزل خلصت، تكون عدتي خلصت، وأكون أنا جاهزة" وهذا ما لن يكون.

النهاية المأساوية
كان سالم قد استجاب إلى طلب محسن بن سيف الآتي من الغبيرة، وبدأ شق الفج الناشف بينما أخذ الصداع يدهمه، إلى أن جرفه الماء إلى أعماق الفلج، حيث تترك نهاية القافر مفتوحة، فبين صور تراوده في غيبوبته لطيف أمه تنتشله وتمدده تحت شجرة، وطيف كاذية شابة تحمله وتغني له، وبين واقع يعيشه في يقظته، يصارع الأسماك الصغيرة العمياء التي تأكل من جروحه، ويتذكر حكاية أحدهم عن بخار المساجين في قلعة الرستاق حيث يدلى السجين بحبل، ثم يفلت في الحفرة الأسطورية، ويدور حول عمود ضخم من الجص، يتحسس تحت قدميه بقايا عظام من سبقوه، ويسمع صراخه وأنينه حتى يخبو الصوت، تنتهي "تغريبة القافر" وتطوى أسطورة فيها من الواقع بقدر ما فيها من الخيال.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون