سندات الخزانة الأمريكية .. شعار «خالية من المخاطر» يتصدع

سندات الخزانة الأمريكية .. شعار «خالية من المخاطر» يتصدع

يواجه المستثمرون العالميون هذا الشهر مفارقة غريبة. أحد شعارات التمويل الحديث يتلخص في أن سندات الخزانة أصول "خالية من المخاطر"، ما يعني ضمنا أن تخلف حكومة الولايات المتحدة عن سداد ديونها أمر غير وارد.
لكن في كانون الثاني (يناير)، تخطت وزارة الخزانة حد الدين البالغ 31.4 تريليون دولار، الذي يحد من إصدار السندات، وحذرت من نشوء أزمة ما لم يرفع الكونجرس هذا الحد، وهو أمر يرفض الجمهوريون فعله دون تخفيضات ضخمة في الإنفاق. وهذا الأسبوع، حذرت جانيت يلين، وزيرة الخزانة، من أن الأموال قد تنفد في الأول من حزيران (يونيو).
لذلك قفزت أسعار مبادلة العجز الائتماني الآن فوق 165 نقطة أساس، ما يشير إلى أن المستثمرين يخشون من أن هناك احتمالا ضئيلا، لكنه متزايد، للتخلف عن السداد. وفي حين تشهد سوق مبادلة العجز الائتماني تداولات ضعيفة، تومض مؤشرات أخرى باللون الأحمر أيضا.
مثلا، تجاوز الفارق بين أذون الخزانة لأجل شهر ولأجل ثلاثة أشهر 180 نقطة أساس، وهو مستوى قياسي. قال آلان شوارتز، رئيس شركة جوجنهايم بارتنرز، في مؤتمر ميلكن هذا الأسبوع "عوائد سندات الخزانة قصيرة الأجل أعلى من سندات الشركات". هذا يعني أن الشركات في أمريكا تعد الآن أكثر أمانا من العم سام. كثير من هذا يعود إلى وسم "خالية من المخاطر".
إذن، ما الذي يجب أن يخلص إليه المراقبون المرتبكون؟ توجد أخبار سارة وسيئة. لنبدأ بالسارة: لا تزال فرصة التخلف عن سداد ديون سندات الخزانة على المدى القريب، كما هو معروف تقليديا، منخفضة للغاية، بغض النظر عن الحركة في أسعار مبادلة العجز الائتماني.
يرجع ذلك جزئيا إلى أن الساسة الأمريكيين لديهم عادة مزمنة "ومخزية" تتمثل في الاقتراب من الكوارث مرارا وتكرارا قبل الوصول إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة. وحتى إذا لم يتكرر هذا الآن، فأمام وزارة الخزانة ثلاثة خيارات لتجنب التخلف عن السداد الفني، إذا كانت أموالها تنتهي حقا في أول حزيران (يونيو).
الأول، إعطاء الأولوية لمدفوعات الفائدة، مع خفض نفقات الميزانية الأخرى. الثاني، تجاهل الحد الأقصى القانوني والاستمرار في إصدار السندات. الأخير، اللجوء إلى حيلة ذكية مثل بيع عملة بقيمة تريليون دولار للاحتياطي الفيدرالي، لزيادة الإيرادات.
الأخبار السيئة هي أن تنظيم أي من هذه الأساليب ليس أمرا سهلا، أو يحتمل أن يطمئن المستثمرين. إذا تجاهلت يلين حد ديون الكونجرس، مثلا، فستظهر طعون قانونية. وحتى إذا "أدى إعطاء الأولوية -لمدفوعات الفائدة- إلى تجنب التخلف الفوري عن السداد، فإن الضرر -على الثقة- سيكون جسيما"، كما يلاحظ بيل دادلي، رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق في نيويورك. "أسعار الأسهم والسندات ستنخفض بشدة".
من المحتمل أن يؤدي ذلك أيضا إلى خفض التصنيف الائتماني. أزالت إحدى الوكالات، ستاندرد آند بورز، بالفعل التصنيف الممتاز لأمريكا. لكن كان لهذا تأثير محدود لأن "موديز" و"فيتش" لا تزالان تصنفانها بدرجة جدارة ائتمانية عالية AAA.
لكن إذا حدث خفض ثان للتصنيف الآن، فإن بروتوكولات الصناعة المالية ستجبر أغلب مديري الأصول على إخراج سندات الخزانة من الفئة AAA المهمة للغاية. هذا يمكن أن يولد سلسلة من ردود فعل غير متوقعة.
فهل يمكن تجنب هذا؟ ربما. في الأسبوع المقبل سيجتمع جو بايدن مع قادة الكونجرس، وقد يحاولون التوصل إلى اتفاق للحفاظ على سير عمل وزارة الخزانة ستة أشهر. إذا تم الاتفاق، مفاوضات سقف الديون التالية ستجري وسط مناقشات الكونجرس حول الميزانية المالية لعام 2024، بالتالي يمكن أن تكون هناك أوراق مساومة أكثر. "الأمر الصحيح الذي يجب فعله هو رفع السقف على المدى القصير"، حسبما قالت مايا ماكجينيس، رئيسة لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة، في مؤتمر ميلكن.
لكن بايدن يصرح علنا بأنه سيحارب أي محاولة لربط هاتين المناقشتين، لأسباب ليس أقلها أن الجمهوريين في مجلس النواب يقولون إنهم لن يرفعوا السقف إلا إذا تم خفض برامج الإنفاق المفضلة للديمقراطيين. ويخشى ميك مولفاني، مدير الميزانية في البيت الأبيض في عهد دونالد ترمب، من أن الجمهوريين اليمينيين المتطرفين سيطيحون برئيسهم، كيفن مكارثي، إذا حدث أي اتفاق دون أن يتضمن مثل هذه التخفيضات.
ذكر مولفاني "لست قلقا بشأن هذا السقف، أعتقد أنهم سيمررون قانونا ما. لكني قلق إزاء المرحلة التالية، لأن السؤال هو: هل يستطيع مكارثي البقاء؟".
على أي حال، ما تمس الحاجة إليه الآن ليس فقط حلا قصير الأجل لقضية سقف الدين، بل خطة مالية طويلة الأجل لمعالجة الدين الوطني الأمريكي المتصاعد. لكن من شبه المؤكد أن هذا يتطلب إصلاحات كبيرة "تخفيضات" للضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، فكرة استبعدها كل من بايدن وترمب.
الواقع أن هناك استقطابا وانقساما سياسيا إلى الحد الذي يجعل إمكانية إنشاء الجانبين لجنة مشتركة للإصلاح المالي الآن مستبعدة، ما لم يتم إجبارهما على تشكيلها لتهدئة ذعر السوق. وهو ليس ما يريد حاملو السندات "ولا يلين" رؤيته.
ربما تحدث هذه الأزمة الآن. ولعلها تثير القدر الكافي من الإذلال، أو الخوف، في الكونجرس لبدء محادثات مالية. يلاحظ شوارتز أن السبب الرئيس وراء تمكن حكومة الولايات المتحدة من تجاهل أعباء الديون المتزايدة في العقد الماضي هو أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية تعني "أننا كنا قادرين على تحمل نفقات أسعار الفائدة الثابتة 17 عاما، ضاعفنا خلالها عجزنا ثلاث مرات. لقد انتهى هذا الآن".
لكن المعضلة هي إذا اندلع ذعر السوق فلن يكون احتواؤه سهلا وقد يحدث "كارثة اقتصادية"، كما ذكر البيت الأبيض. "بغض النظر عن كيفية سير هذه المفاوضات، فقد أظهرنا بالفعل للعالم أننا مفلسون على نحو ينذر بالخطر"، كما ماكجينيس بطريقة تنم عن الأسف.
أو بعبارة أخرى، المفاجأة الحقيقية لعام 2023 ليست أن شعار "خالية من المخاطر" يتصدع، بل إنه ظل قائما لفترة طويلة، نظرا للخلل السياسي في أمريكا. يجب أن يقلق المستثمرون.

سمات

الأكثر قراءة