القهوة .. تجارة المليارات التي اكتشفها راعي الغنم

القهوة .. تجارة المليارات التي اكتشفها راعي الغنم
رمز للضيافة والكرم العربي.
القهوة .. تجارة المليارات التي اكتشفها راعي الغنم

يوم عادي، يخرج فيه كالدي راعي الغنم إلى منحدرات الهضبة الإثيوبية، البحيرات تحيطه من جوانب عدة، والجبال على مرمى البصر، في المنتصف صحراء فيها من الزرع ما يكفي لتسمين أغنامه، جلس قليلا تحت ظل شجرة تاركا "حلاله" يلهو أمامه. آنذاك سمح لأفكاره بأن تهيم قبل أن تقطعها ماعز تغير سلوكها، بعد أكل ثمرة تشبه "التوت الأحمر"، حينها لم يتمتع الراعي بموهبة نيوتن أو عبقرية آينشتاين ليمضي قدما في التجربة، حتى اكتشف سره أحد الرهبان، الذي بدوره جفف أوراق الثمرة ليتمتع أكثر بالمشروب، تلك الثمار عرفت لاحقا بـ"البن".
تلك المصادفة التي ترويها كل المصادر في القرن التاسع الميلادي كتأسيس لظهور "القهوة"، هي ما ستشكل بعد قرون "مزاج الصباح" لمئات الملايين من البشر، وبعد الاكتشاف الإثيوبي توثق المصادر وصول القهوة إلى اليمن في أول المحطات خارج إفريقيا، ذلك في القرن الـ15، ويقول دايف إيجرز الكاتب الأمريكي في روايته "راهب الموخا" الصادرة في 2019، "إن علي بن عمر الشاذلي أحد أقطاب الصوفية هو من نقل تلك البذور إلى اليمن، ووصل الأمر آنذاك إلى سن قوانين تمنع نقل زراعة البن خارج البلاد، ووصلت العقوبة إلى الإعدام"! لم تفلح القوانين، وسرعان ما عرف البن طريقه إلى الخارج، فوصل إلى القاهرة ومنها إلى إسطنبول التي كانت بوابة العبور إلى أوروبا، لكن قبل ذلك كانت أولى محطات القهوة في السعودية، حين استقبل ميناء جازان كثيرا من الحجاج جاءوا بالمشروب الجديد، ورغم أن كل البلاد تعاملت مع الأمر بطريقة هامشية، لكن ما حدث في السعودية مختلف، إذ تحولت الثمرة إلى ركن أساسي من ثقافتها. ويذكر يحيى المالكي الباحث التاريخي، أنه في 1218، لم يكن هناك بيت في السعودية يخلو من شراب القهوة، وكانوا يسمون البن ويصنفونه حسب أماكن زراعته، ومن هناك ظهر البن الخولاني نسبة إلى قبيلة خولان العريقة، قبل أن يتميز بجودته العالمية التي جعلته مطلوبا عالميا.
ترسخ "البن" أكثر في المملكة بتعاقب الأجيال، حتى ظهرت مقولة "شربت القهوة في كل البلاد لكن هويتها صنعت في السعودية"، وهذا ليس غريبا إذ تحولت "الحبة الخضراء" إلى جزء من ثقافة المملكة متعددة الثقافات، فمن ناحية هي رمز للضيافة والكرم العربي، ومن ناحية أخرى رمز للهوية، فبمجرد أن تفوح رائحة الهيل وتجد الدلة والفنجان والتمر السكري، تدرك جيدا أنك حللت في بيت سعودي حتى لو خارج المملكة، إضافة إلى ارتباطها بجميع المناسبات والأعياد في شبه الجزيرة العربية. ولعل نظرة على الأرقام تثبت ذلك، فبحسب موقع "ستاتيستا" تحتل السعودية المركز الخامس عربيا في استهلاك القهوة بنصيب 1.6 كيلوجرام للفرد الواحد سنويا في 2020.
هذا الموروث الأصيل والعشق اللا محدود، تدركه وزارة الثقافة السعودية جيدا، بقيادة الوزير الأمير بدر بن فرحان، لذا قررت أن يكون 2022 عام القهوة السعودية، لتقدم فيه فعاليات يتلألأ فيها "البن"، وينتشر في معظم دول العالم. وكانت البداية من خلال حملات تعريفية بـ"القهوة السعودية" الأشهر في الوطن العربي، بجانب استهداف الزوار الأجانب لتعريفهم بالفروقات بين النكهات وأهم مميزات ما تنتجه البلاد، إضافة إلى اختيار إحدى الطائرات التابعة لأسطول النقل الجوي ليرسم عليها من الخارج مراحل نمو شجرة البن الخولاني كجزء من تعزيز الهوية البصرية، فضلا عن عدة حملات تسويقية وإعلامية واسعة، شهدت وجود القهوة السعودية في عدة معارض عالمية، آخرها قمة دافوس.
لكن الأمر لم يتوقف عند حدود الهوية والثقافة فقط، فاقتصاد البن لم يعد من المجالات التي يمكن تجاهلها عالميا، فوفقا لمنظمة أيكو الحكومية الدولية، ارتفع استهلاك البن العالمي من 9.9 مليون طن في 2019 إلى عشرة ملايين طن في 2020 بنسبة نمو 1.3 في المائة وبمعدل استهلاك 316 كيلوجراما في الثانية الواحدة، وتستأثر أوروبا بثلث الاستهلاك العالمي بمفردها، تليها قارة آسيا والدول المحيطة بها، وفي المرتبة الثالثة تأتي أمريكا الشمالية ثم الجنوبية، أما حجم التجارة فوصل إلى 466 مليار دولار في 2020 بحسب "جلوبال نيوز وير"، ويستأثر كل من البرازيل وفيتنام بـ50 في المائة من حجم الصادرات سنويا، تليهما كولومبيا وإندونيسيا وهندوراس بإنتاج طني متفاوت.
أمام تلك الأرقام لم تكن الرياض عاجزة عن تقديم قهوتها على طريقتها الخاصة، بل وفق خطط استراتيجية للاستفادة مما تنتجه. عملت منذ أعوام على زيادة زراعة البن، وهذا ما أثبتته الأرقام، ففي الفترة من 2017 حتى نهاية 2020 نجحت السعودية في زيادة عدد أشجار البن لتصل إلى 400 ألف شجرة بعد أن كانت لا تتجاوز الـ150 ألفا، وهو ما جعلها تمثل أملا أخيرا لعشاق "تحية الصباح" بعد تراجع المخزون العالمي 60 في المائة، وإعلان فيتنام أن مخزونها أوشك على النفاد، وهو ما حدث مع البرازيل بسبب التغيرات المناخية وارتفاع أسعار الطاقة نتيجة الحرب الروسية - الأوكرانية.
ولتأكيد أن تلك الخطط تسير وفق استراتيجية ناجحة، أعلن صندوق الاستثمارات العامة إطلاق الشركة السعودية للقهوة في مايو الماضي، باستثمارات وصلت إلى 1.2 مليار ريال على مدى الأعوام العشرة المقبلة، من أجل تطوير زراعة البن والارتقاء إلى المصاف العالمية في المستقبل. والسؤال الآن: متى يستبدل المواطن العربي في أي دولة قهوته الأمريكية السوداء بقهوة صفراء تفوح منها رائحة المملكة وعبق تاريخها؟ ضمن موروث أصيل عبر عنه الشاعر السعودي الكبير خلف بن هذال في قصيدته: "صبولي من الكيف وارهولي من الدلة .. البن الأشقر يداوي الراس فنجاله".

الأكثر قراءة