التواضع الفكري .. الاعتراف بالحق فضيلة
ما الذي يجعل بعض الناس يؤمنون بنظريات المؤامرة والتقارير الإخبارية الكاذبة أكثر من غيرهم؟ هل هو منظورهم السياسي أم الديني؟ هل هو افتقار إلى التعليم الرسمي؟ أم أن الأمر يتعلق أكثر بالعمر أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء الأشخاص؟
تشير دراسة نشرت أخيرا إلى أن الأهم من كل هذه العوامل هو خاصية أخرى، المدى الذي يتمتع فيه الشخص - أو لا يتمتع - بالتواضع الفكري.
يمكن اعتبار التواضع الفكري أنه الاستعداد للاعتراف بقيودنا وتحيزاتنا المعرفية، والاعتراف بالخطأ عندما نكون مخطئين، والاهتمام بفهم حقيقة قضية ما أكثر من كوننا على صواب. يمكن استخلاص جوهر التواضع الفكري بشكل جيد من خلال الاقتباس المنسوب في الأغلب "على الأرجح بشكل خاطئ" إلى جون ماينارد كينيز، "عندما تتغير الحقائق، أغير رأيي - ماذا عنك؟".
في دراستهما، وجد ماركو ماير ومارك ألفانو - وهما أكاديميان متخصصان في نظرية المعرفة الاجتماعية، وهو مجال يتداخل بين الفلسفة وعلم النفس - أن الذين يمتلكون هذه الخصلة أفضل بكثير في التمييز بين التقارير الإخبارية الدقيقة والتقارير الخاطئة. ويشيران إلى أن امتلاك التواضع الفكري كان مؤشرا أفضل لقدرة شخص ما على مقاومة الأخبار المزيفة أكثر من أي من العوامل الأخرى التي نظرا إليها.
في دراسة أخرى نشرت العام الماضي، وجد ماير وألفانو علاقة قوية بين الخطيئة المعرفية "الافتقار إلى التواضع الفكري" وتصديق معلومات خاطئة عن كوفيد -19 بمعامل 0.76. كان ثاني أقوى ارتباط هو التدين، بمعامل معتدل مقداره 0.46. بينما وجدا ارتباطا ضعيفا بين الذكاء - يقاس بنتائج الامتحان ومستوى التعليم والأداء في اختبار الانعكاس المعرفي - وتصديق المعلومات الكاذبة، فإنهما يقولان إنه لا يوجد رابط بين الذكاء والتواضع الفكري.
يقول ماير، الذي يعمل في جامعة هامبورج، "عندما تكون ذكيا، يمكنك في الواقع أن تكون أكثر عرضة لأنواع معينة من المعلومات المضللة، لأنه من المرجح أن تكون قادرا على عقلنة معتقداتك". ويشير إلى أن التواضع الفكري "في غاية الأهمية كثقل موازن ضد الذكاء تقريبا".
قد تعتقد أنه من المستحيل تقريبا قياس هذه الخصلة، لكن عمل ماير وألفانو يشير إلى أن التواضع الفكري المبلغ عنه ذاتيا - بناء على طلب المشاركين في الدراسة تقييم مدى اتفاقهم مع عبارات مثل "غالبا ما يكون لدي آراء قوية حول القضايا التي لا أعرف كثيرا عنها "- فاعل للغاية. أظهرت دراسات أخرى ارتباطات إيجابية بين التواضع الفكري المبلغ عنه ذاتيا والتواضع المبلغ عنه من الأقران، حيث ينظر إلى المبلغ عنه ذاتيا عموما على أنه مقياس أكثر دقة.
قد تخشى أيضا، بالنظر إلى التمثيل الليبرالي المفرط في الأوساط الأكاديمية، من أن الأمثلة المستخدمة في هذه الدراسات قد تنحرف نحو أكاذيب أو مؤامرات اليمين. لكن الباحثين يقولان إنهما كانا حريصين على ضمان التوازن. في حالة المعلومات الخاطئة عن كوفيد، سألا المشاركين عن معتقداتهم في القضايا المتنازع عليها على نطاق واسع، مثل هل مجففات الأيدي فاعلة في قتل الفيروس، بدلا مما هو أكثر إثارة للجدل مثل فاعلية الكمامات والإغلاقات، أو أصل الفيروس.
إن التواضع الفكري ليس مهما في منع انتشار المعلومات المضللة فحسب. وجدت دراسات أخرى أنه يرتبط بما يسمى "سلوكيات الإتقان" كالبحث عن عمل صعب والمثابرة بعد الفشل، كما أنه مرتبط أيضا بـ"التحيز للآراء الشخصية" الأقل سياسية.
مع ذلك، فإن هذه الخصلة ليست سهلة الغرس في النفوس. تشير دراسة حديثة إلى أن تعريض الطلاب بشكل متكرر لأخطائهم، مثل إشراكهم في التنبؤ بنتائج بطولات المدرسة، قد يكون فاعلا. لقد جادلت سابقا أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تويتر، يجب أن تفعل خاصية تعرضنا لمعتقدات لا نصادفها في العادة، وقد تكون الحيلة الأخرى هي تنفيذ ممارسة "تقوية حجة الآخرين"، وهو مصطلح يبدو أن المدونة تشانا ميسينجر قد صاغته. تصفه بأنه "فن التعامل مع أفضل شكل من أشكال حجة الشخص الآخر، حتى لو لم تكن الحجة التي قدموها" - بعبارة أخرى، على العكس من حجة رجل القش "إضعاف حجة الآخرين".
بالطبع، هناك حدود للتواضع الفكري، بعد نقطة معينة يصبح انغماسا في الذات ويمكن أن يجعلنا مترددين في الحسم. إدارة بلد - حتى كتابة عامود في صحيفة - يتطلب مستوى من القناعة، وهذا يعني أحيانا تزييف هذه القناعة قليلا والأمل في الأفضل. لذلك يجب أن ننمي خصالا أخرى أيضا، كالشجاعة والقدرة على اتخاذ الإجراءات.
لكن تعزيز بيئة نكافئ فيها عدم اليقين ونثني على الذين يعترفون بأخطائهم هو أمر حيوي. إن قول "لقد كنت مخطئا" وشرح السبب في الأغلب ما يكون أكثر قيمة من الإصرار على "كنت على حق".