علم اجتماع الأدب .. شعلة تضيء مناطق العتمة في السرديات

علم اجتماع الأدب .. شعلة تضيء مناطق العتمة في السرديات
تندر الكتابات باللغة العربية في هذا المجال.
علم اجتماع الأدب .. شعلة تضيء مناطق العتمة في السرديات
عندما يقع النص في يد القارئ فإنه يتعرض لتحوير وإعادة إنتاج.

تحمل الأعمال الأدبية في طياتها حكايات بدلالات اجتماعية تعكس واقع مجتمع الفرد المنتج للعمل الأدبي، في سطور وصفحات غنية قابلة للقراءة السوسيولوجية، تعرفنا على المجتمع وأحواله وتحولاته.
في كتاب "علم اجتماع الأدب" لمؤلفه الدكتور عبدالله العرفج يتناول علم الاجتماع وعلاقته بالكتابة الأدبية، الذي يدرس الكاتب، واللغة كمضمون أو حتى لغة، والبيئة الاجتماعية المحيطة أو المجسدة بالنص، حيث يسبر أغوارها بوصفها مادة اجتماعية قابلة للمعالجة والقراءة السوسيولوجية، وسط تساؤلات حول مدى التجانس والتنافر بين الأدب بوصفه فرديا خياليا، وعلم الاجتماع بوصفه موضوعيا واقعيا.
سوسيولوجيا أدبية
بدأ الاهتمام بدراسة الأدب من منظور علم الاجتماع في أواسط القرن الـ20، واستفاد النقد الأدبي من المنظور السوسيولوجي ومفاهيمه في إضاءة بعض مناطق العتمة في النصوص الأدبية.
وكان الناقد الفرنسي إسكاربيه قد أشار إلى أن تسمية علم اجتماع الأدب ظهرت للمرة الأولى في الأربعينيات، على يد الفرنسي جي ميشو في كتابه "مدخل علم الأدب" الذي نشر في إسطنبول في 1950، حيث كانت فكرة "سوسيولوجيا أدبية" تشير إلى أن هذا العلم لم يكن مكتملا، وإنما بداية الشيوع لهذا المفهوم المعاصر الذي لم يكن موجودا من قبل.
تفاعل مع لغة العمل الأدبي
عندما يقع النص في يد القارئ فإنه يتعرض لتحوير وإعادة إنتاج، بفعل تفاعل القارئ بمكوناته المختلفة أو خلفيته الفكرية والثقافية والاجتماعية مع النص ذي القابلية للتأويل أو القراءة المتعددة، فلغة العمل الأدبي ليست توصيلية مباشرة كلغة الحياة اليومية أو المحادثة اليومية، أو لغة البحث العلمي التي على المتلقي أن يفهمها دون تأويل أو تحوير، بل إنها لغة خاصة تقوم على الخيال من خلال الاستعارات والتشبيهات التي تجعل منه عالما سحريا غامضا، على الرغم من كونه مصنوعا من المفردات نفسها للغة التواصل في الحياة اليومية، لكنه في المجمل الناتج أو المتكون لا يشبهها للطريقة الخاصة التي يتعامل بها مبدع النص الأدبي مع الكلمات.
ويبسط الدكتور العرفج ذلك بنقله وجهة نظر الفيلسوف الروسي ميخائيل باختين في كتابه "المتكلم في الرواية"، الذي لفت الانتباه إلى اختلاف اللغة أو اللهجة من شخصية إلى أخرى باختلاف المستوى الاجتماعي، أو الطبقة التي تنتمي إليها شخصيات العمل الأدبي.
ويبين أن اللهجات الخاصة بمجموعات معينة، سواء كانت مهنية أو أيديولوجية المجسدة لهويات معينة تجد طريقها إلى النص الأدبي، ويمكن اكتشافها من خلاله، بل إنه حتى في الشعر وهو الأكثر رمزية، والأكثر إغراقا في الخيال، نجد أن مفردات اللغة الشعرية في كثير من الأحيان تتأثر من حيث الرقة والجزالة بالبيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة بالشاعر، وبالتالي تختلف من شاعر إلى آخر، وعند الشاعر نفسه فيما لو عاش في بيئتين متباينتين.
اهتمام عربي بالروايات
في كتاب "علم اجتماع الأدب"، يرى الدكتور عبدالله العرفج أن الباحثين العرب الذين يدرسون الأدب من منظور علم الاجتماع يولون اهتماما أكبر بالرواية، على عكس الأنواع السردية الأخرى خصوصا، القصة القصيرة التي لم تلق الاهتمام نفسه لطبيعة الجنس الروائي المحتشد بالتفاصيل والحياة الاجتماعية الواسعة التي تعرضها، ما يتيح للدارس معطيات اجتماعية أكبر وأوضح.
ويعرف علم اجتماع الأدب بأنه فرع من علم الاجتماع، يدرس الأدب لا بوصفه بناء فنيا متكونا من بنى وعلائق لغوية وأشكال جمالية بهدف نقده أدبيا، وإنما بوصفه موضوعات اجتماعية غير منفصلة عن موقع منتجها وما يحيط به، بقصد التعرف على المجتمع أو بعض أجزائه، أو إبراز الجانب الاجتماعي للمنتج الأدبي، كما يدرس ما يحيط بأطراف الأثر الأدبي من مظاهر اجتماعية.
الأدب والمجتمع في مرآة النقاد
يرى بعض النقاد أن الطريقة الكلاسيكية المعهودة للأدب والاجتماع تتمحور حول نجاح الكاتب وعمله الأدبي في مدى دقة تصويره ونسخه للواقع، وكأن الأديب مصور فوتوغرافي، أو مجرد ناقل أمين لجانب من جوانب الحياة الاجتماعية، وقد شاع هذا الفهم لدى الواقعيين، خصوصا الواقعية الاشتراكية التي فهمت الأدب على أنه مجرد انعكاس تابع ومتأثر بما يحدث في المجتمع، خصوصا في النسق الاقتصادي، فكان معيار الأدب لديهم هو مدى إخلاصه في رسم الواقع ووضعه في الحسبان.
وهناك وجه ثان للعلاقة بين الأدب والمجتمع، وفيه لا نرى الواقع الحقيقي مرسوما بدقة أو منسوخا كما هو، أما الوجه الثالث فيرى أن العلاقة بين الأدب والاجتماع تتحقق من خلال انحيازات يقوم بها كاتب النص، تتمثل في جزئيات مختارة من الواقع، فالصورة في المرآة هنا مغايرة أو غير مطابقة لما هي عليه في الواقع الاجتماعي، ويرجع ذلك لطبيعة المرآة ذاتها فقد تكون معتمة أو مشروخة حيث تعطي صورة مشوهة أحيانا، وهي علاقة تناولها دارسين وتيارات ومذاهب أدبية مختلفة من جميع الأطياف الثقافية، يوردها كتاب العرفج.
وعن علاقة الكاتب بالمجتمع، يورد كتاب "نظرية الأدب" لرينيه ويليك وأوستن وارين، بأن الكاتب لا يتأثر بالمجتمع فقط، إنه يؤثر فيه، والفن ليس مجرد إعادة صنع الحياة فقط، وإنما تكوين لها أيضا، فقد يصوغ الناس حياتهم حسب نماذج لأبطال وبطلات من صنع الخيال.
كيف نقرأ الأدب من منظور اجتماعي؟
يتحدث كتاب "علم اجتماع الأدب" عن تكوين النص الأدبي الذي يتطلب في أغلب الأحيان امتلاك أدوات خاصة وتعاملا منهجيا خاصا يراعي تلك الطبيعة الخاصة التي تتفاعل فيها العوامل الذاتية للأديب، بما فيها الأدوات الفنية مع العوامل الموضوعية المحيطة به، لتشكل بناء متميزا يصعب أحيانا تفكيك عناصره للوصول إلى الحقيقة الاجتماعية الكامنة وراءه أو الواقع الاجتماعي الكامن في أعماقه، نظرا إلى اختلاف لغته عن النصوص غير الأدبية، خصوصا أن هناك نصوصا مغرقة في الرمزية.
ويرى الكاتب بأن الغموض والتعمية كبعض أشكال أدب الحداثة وما بعد الحداثة، تصعب على عالم الاجتماع غير المتمرس في القراءة الأدبية، وتذوق الأدب بأشكاله المختلفة، والغوص في أعماقه للخروج بدلالاته التاريخية والواقعية، خصوصا الجوانب الاجتماعية منه، لذلك في الأغلب ما نرى المتخصصين في علم اجتماع الأدب هم من هواة الأدب وممارسيه قراءة وإبداعا، ما كون لديهم القدرة والشغف لتحمل وتفكيك أو تحليل تلك الظاهرة المعقدة.
عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي لوسيان جولدمان يشترط بدوره أن عالم الاجتماع الأدبي له إمكانات إضافية كالإلمام بطبيعة الأعمال الأدبية، والقدرة على تذوقها من خلال الخلفية الأدبية المناسبة، فيما يواجه هذا العلم من عدم توافر المراجع الكافية، ولا سيما في العالم العربي الذي تندر فيه الكتابات باللغة العربية في هذا المجال، ولا تتجاوز الكتب الموجودة أصابع اليد الواحدة، بغض النظر عن قيمتها العلمية وهل هي مقتبسة أم لا، بل إن بعضها لا يحمل من علم اجتماع الأدب إلا العنوان، مثل كتاب حسين الحاج حسن "علم الاجتماع الأدبي".

الأكثر قراءة