الخصوصية 1ـــ 2
الخصوصية 1ـــ 2
شاعت فكرة الخصوصية في محترفنا التشكيلي المحلي منذ البدايات، فعند بدايتي في الفن تصورت نفسي ضحية من دونها، وترسخ في ذهني أن أي تجربة لا تتمتع بالخصوصية فلابد أن نقرأ عليها وعلى روح صاحبها السلام، طبعا لكم أن تتصوروا أن مفهوم مصطلح الخصوصية عند غالبية الذين يمارسون عمليات الإبداع في الفن لا يتجاوز تلك المنجزات التي تشتغل على كل ما يتعلق بالتراث سواء كان من الطبيعة أو الحرف القديمة أو الأواني أو الألعاب الشعبية..إلخ، وكنت مثل كثيرين، أصدق ما يردده أغلب الذين يمارسون الفن من قبلي ومن بعدي، ومن دون أن أجرؤ على معرفة المزيد عما يتعلق بهذه الخصوصية، وطبيعتها، كيف يلمس الفنان فرادتها في تجربته ؟ ماذا ستحقق له ؟ وكيف يصل أعلى مراتبها ؟
والحقيقة أن واقعنا الثقافي المحلي والتشكيلي على وجه الخصوص لم يأخذ بنا نحو ثقافة السؤال، بقدر استحضار الإجابات الجاهزة التي لا تؤدي عادة إلا إلى نتيجة واحدة أو متعسفة لا تسمن ولا تغني من جوع بالطبع آنذاك مثل كثيرين يشبهونني أسرفت في أفعال الممارسة البصرية بالضرب والجر والطرح وبالضم إذا شئتم، لأقبض على هذه الخصوصية ولم أفلح، أذكر على سبيل المثال العبارة التي يقول أصحابها، إن الخصوصية تعني شخصية الفنان من خلال تجربته الفنية، وهي عبارة لم أكن أفهم منها شيئا ملموسا، غير أني كنت أقبل بها من دون اعتراض أو امتعاض، هناك أيضا العبارات التي تشاع بشأن التعاطي مع الحروفية ومنها أن الحروفية شيء من الخصوصية أو أن كل رسام ينتصر لمفردات التراث، (أي تراث) فهو يعمل من أجل الانتصار للخصوصية، وهذه عبارات تبدو عند أنصارها دامغة لا تقبل الجدل أو الخدش، ولكم أن تتصوروا إلى أي درجة كنت وغيري كثيرون بالطبع مبهورين بهذه العبارات أو الأفكار، حتى أننا صدقناها عن ظهر قلب، شخصيا أخلصت للحروفية كأني عاشق، كنت أظن أنني سأنال في حضنها مالم ينله غيري، أصبحت أنتظر يوما أكون فيه مبدعا فريدا من نوعه، غير أن الحروفية تنكرت لي فيما بعد ولم تعطني الخصوصية المنشودة أو أكثر مما استحق، صحيح أنها أعطتني شيئا ما، غير قليل لدرجة أن بعضه أصابني بلوثة،
وحتى لا أغضب المناصرين للتراث أو الحروفية سأعكس المسألة وبدلا من أن تكون الحروفية هي التي تنكرت لي فقد أكون أنا من تنكرت لها عن سابق إصرار وإرادة، ولا أتردد في القول إني بهذا الموقف حفظت ماء وجه الفن، أو هكذا أظن، ذلك أن الحروفية لم تعد قادرة على إمتاعي، والفن عندي كما عند كثيرين يشبهونني متعة لا يقبل المزايدة على طقوسه.
لمزيد من التوضيح فإن الفن لا يؤمن بالوقوف عند علامات أو إشارات أو حتى مصطلحات بعينها، وهو إذ يعكس في كل مرة شيئا ما، على أنه متصل بالعصر، فربما لا يقبل به أو يعيد تكراره مستقبلا، ذلك أن الفن لا يرضى بالوقوف عند أطلال الماضي بقدر ما يعقد صفقات مع متغيرات وتحولا ت المستقبل، وحتى لا تفهموني بالمقلوب فأنا لست ضد التجارب الحروفية إذ إنني أؤمن بأن هناك استثناء يمكن الإشارة إليه، غير أنه نادر ويعيش في الهامش أو بعيدا عن المركز، عموما فإن الذين ألبسوا أو لا يزالون يلبسون الحروفية والتراث لباسا غير لباسها على اعتبار أنهما تحققان الخصوصية، لم يدركوا بعد المسافة بين اختيارهم للتراث أو الحروفية وبين طبيعة الفن وتحولاته، وبين حقهم في البقاء في أماكنهم وحق الفن في تجاوز تلك الأماكن من دون وصاية.