الموجة الثالثة من التعاقدات الخارجية
في مطلع هذا العام، استقبل العاهل السعودي عددا من المستثمرين ومعهم كميات لأول شحنة من الأرز، كجزء من أول محصول سيتم إنتاجه تحت ما أطلق عليه مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج. وقد تمت زراعته في إثيوبيا، حيث تنفق مجموعة من المستثمرين السعوديين 100 مليون دولار لزراعة القمح والشعير والأرز في أراضي تم تأجيرها لهم من قبل الحكومة. وقد حصل المستثمرون على إعفاء من الضرائب في السنوات القليلة الأولى، وقد يصدّرون المحصول بأكمله إلى الوطن. ومن جهة أخرى، ينفق برنامج الأغذية العالمي المبلغ نفسه تقريبا الذي ينفقه المستثمرون (116 مليون دولار) لتوفير 230 ألف طن من المساعدات الغذائية بين الأعوام 2007 و2011 إلى 4.6 مليون إثيوبي يعتقد البرنامج أنهم معرضون لخطر الجوع وسوء التغذية.
والبرنامج السعودي هو مثال على الاتجاه القوي ولكن المثير للجدل الذي يجتاح العالم الفقير: تستعين الدول التي تصدّر رأس المال ولكن تستورد الغذاء بمصادر خارجية للحصول على إنتاجها الزراعي، وهذه المصادر الخارجية هي الدول التي تحتاج إلى رأس المال ولكن لديها أراض يمكنها التخلي عنها. وبدلا من شراء الغذاء من الأسواق العالمية، تشتري الحكومات والشركات المؤثرة سياسيا الأراضي الزراعية في الخارج أو تستأجرها، وتزرع فيها المحاصيل وتشحنها للوطن.
يقول مؤيدو مثل هذه الصفقات إنهم يوفرون بذورا وتقنيات وأموالا جديدة للزراعة، التي تعد أساس اقتصادات الدول الفقيرة، التي تعاني نقص الاستثمار بصورة هائلة وكارثية منذ عقود عديدة. أما المعارضون فيصفون هذه المشاريع بأنها "استيلاء على الأراضي"، ويزعمون أن الدول المضيفة لن تستفيد من المزارع وأنه سيتم طرد المزارعين الفقراء من الأراضي التي ظلوا يزرعونها لأجيال عديدة. وما لا جدال فيه هو أن المشاريع كبيرة ومحفوفة بالمخاطر ومثيرة للجدل. فقد أسهمت في إسقاط الحكومة في مدغشقر.
إن الاستثمار في الأراضي الزراعية الأجنبية ليس أمرا جديدا. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، هرع المستثمرون الأجانب للاستيلاء على الأراضي الزراعية الجماعية المملوكة سابقا للدولة. وحتى قبل ذلك، كان هناك أمثلة معروفة عن محاولات أوروبية لإقامة مزارع رئيسة في المستعمرات السابقة، مثل محاولة بريطانيا الفاشلة في الأربعينيات لتحويل مساحات كبيرة من جنوب تنزانيا إلى حقل شاسع للفول السوداني (مخطط الفول السوداني في جنوب تنجانيقا). وتشير عبارة "جمهوريات الموز" في الأصل إلى الديكتاتوريات الاستعبادية التي تدير الدول التي كان يهيمن على اقتصاداتها مزارع الفاكهة المملوكة أجنبيا.
إلا أن هناك بعض المظاهر الجديدة في التيار الحالي. وأولها هو حجمها. ففي السابق، كانت صفقة الأراضي الكبيرة تشمل نحو 100 ألف هكتار (240 ألف فدان). أما الآن، فإن مساحة الأراضي المشمولة في أكبر الصفقات أكبر من ذلك بعدة أضعاف. وفي السودان وحده، وقعت كوريا الجنوبية صفقات للحصول على 690 ألف هكتار، والإمارات على 400 ألف هكتار، وضمنت مصر صفقة مماثلة لزراعة القمح. ويقول أحد المسؤولين في السودان إن بلاده ستخصص للحكومات العربية ما يقرب من خمس الأراضي المزروعة في أكبر دولة في إفريقيا (التي تعرف تاريخيا بأنها سلة الخبز للعالم العربي).
وليست دول الخليج هي وحدها التي تشتري المزارع. فقد ضمنت الصين حق زراعة زيت النخيل لتصنيع الوقود الحيوي في 2.8 مليون هكتار من أراضي الكونغو، التي ستكون أكبر مزرعة لزيت النخيل في العالم. وتتفاوض حاليا لزراعة الوقود الحيوي في مليوني هكتار من أراضي زامبيا، الدولة التي يقال إن المزارع الصينية فيها تنتج ربع البيض الذي يتم بيعه في العاصمة، لوكاسا. ووفقا لأحد التقديرات، سيعمل مليون مزارع صيني في إفريقيا هذا العام، وهو رقم يصفه أحد القادة الإفريقيين إنه "كارثي".
ويقول المعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية، وهو معهد فكري في واشنطن العاصمة، إنه في المجموع، تخضع ما بين 15 و20 مليون هكتار من الأراضي الزراعية في الدول الفقيرة للصفقات أو المحادثات التي تتضمن أجانب منذ عام 2006. وهذا يعادل حجم الأراضي الزراعية في فرنسا وخمس جميع الأراضي الزراعية في الاتحاد الأوروبي. وتشير تقديرات المعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية المتحفظة فيما يتعلق بقيمة الأراضي إلى أن قيمة مثل هذه الصفقات تبلغ 20 إلى 30 مليار دولار - أكبر بعشرة أضعاف على الأقل من رزمة الطوارئ الزراعية التي أعلنها البنك الدولي أخيرا وأكبر بـ 15 ضعفا من الصندوق الجديد للأمن الغذائي الذي وضعته الإدارة الأمريكية.
وعلى افتراض أن الأرض ستنتج حين تتم زراعتها طنين تقريبا من الحبوب لكل هكتار (أكبر بضعفين من المتوسط الإفريقي ولكن أقل من المتوسط في أوروبا وأمريكا وآسيا الغنية)، فسيتم إنتاج 30 إلى 40 مليون طن من الحبوب سنويا. وهذه نسبة كبيرة من تجارة الحبوب العالمية البالغة تقريبا 220 مليون طن سنويا، وستكون أكثر من كافية لتلبية احتياجات استيراد الحبوب في الشرق الأوسط. ويقول Richard Ferguson، وهو محلل في Nomura Securities، إن ما يحدث هو الموجة الكبيرة الثالثة من الاستعانة بالمصادر الخارجية، بعد موجة الاستعانة بمصادر خارجية في التصنيع في الثمانينيات وفي تكنولوجيا المعلومات في التسعينيات.
وهناك أيضا عدة مظاهر جديدة أخرى في هذه العملية. فخلافا للمشاريع القديمة، تركز المشاريع الحالية على السلع الأساسية أو الوقود الحيوي - القمح، الذرة، الأرز، الجاتروفا. فمشاريع مصر وكوريا الجنوبية في السودان تتعلق بزراعة القمح. واستأجرت ليبيا 100 ألف هكتار من أراضي مالي لزراعة الأرز. وفي المقابل، كانت المشاريع الزراعية في السابق تشمل المحاصيل النقدية (التي تتم زراعتها لتسويقها بهدف الربح)، مثل القهوة والشاي والسكر والموز.
وفي الماضي، كان الاستثمار الأجنبي في الزراعة من القطاع الخاص غالبا: كان مستثمرون من القطاع الخاص يشترون الأراضي من أصحاب أراض من القطاع الخاص. ولا تزال هذه العملية مستمرة، خاصة الحصول على الأراضي التي تمت خصخصتها في الاتحاد السوفياتي السابق. وفي العام الماضي، اشترت شركة سويدية تدعى Alpcot Agro مساحة 128 ألف هكتار في روسيا؛ ودفعت شركة Hyundai Heavy Industries من كوريا الجنوبية 6.5 مليون دولار لشراء حصة أغلبية في شركة Khorol Zerno، الشركة التي تمتلك عشرة آلاف هكتار في شرق سيبيريا، واشترى بنك Morgan Stanley الأمريكي 40 ألف هكتار في أوكرانيا في آذار (مارس). وتخطط شركة Pava، أول شركة روسية لمعالجة الحبوب سيتم تعويمها، لبيع 40 في المائة من قسم تمليك الأراضي إلى مستثمرين في الخليج، ما يمنحهم حق الحصول على 500 ألف هكتار. وبسبب ارتفاع قيمة الأراضي والارتفاع (حتى أخيرا) في أسعار السلع، كانت الزراعة أحد القطاعات القليلة الجذابة خلال الأزمة الائتمانية.
الاستيلاء الحكومي العظيم
إلا أن معظم الصفقات الجديدة تتم بين الحكومات. فالمشترون هم أنظمة أو شركات أجنبية مرتبطة ارتباطا وثيقا بها، مثل صناديق الثروة السيادية. والبائعون هم الحكومات المضيفة التي تتخلى عن الأراضي التي تمتلكها اسميا. فقد أجرت كمبوديا أراضي لمستثمرين من الكويت في آب (أغسطس) الماضي بعد زيارات متبادلة بين رؤساء الوزراء. وفي العام الماضي، أنشأت حكومتا السودان وقطر مشروعا مشتركا للاستثمار في السودان؛ ووقع وزراء مالية الكويت والسودان ما وصفوه بأنه شراكة استراتيجية "ضخمة" لتحقيق نفس الهدف. وزار مسؤولون سعوديون أستراليا والبرازيل ومصر وإثيوبيا وكازاخستان والفلبين وجنوب إفريقيا والسودان وتركيا وأوكرانيا وفيتنام للتحدث عن عمليات استحواذ على الأراضي. فالتوازن بين الدولة والقطاعات الخاصة يميل بصورة كبيرة لصالح الدولة.
وهذا يجعل الجولة الحالية من عمليات الاستحواذ على الأراضي مختلفة في نوعها وكذلك في حجمها. فحين يستثمر مستثمرون من القطاع الخاص المال لزراعة محاصيل نقدية، يسهمون في تعزيز التجارة العالمية والنشاط الاقتصادي الدولي. وكانوا، نظريا على الأقل، يشجعون المزارعين على التحول من زراعة الأرز للكفاف إلى زراعة المطاط لتحقيق الربح؛ ومن زراعة المطاط إلى العمل في مصانع الإطارات؛ ومن تصنيع الإطارات إلى تصنيع السيارات. إلا أن الحكومات الآن تستثمر في محاصيل السلع الأساسية بنزعة حمائية للتحايل على الأسواق العالمية. فلماذا تفعل ذلك وما الآثار الناجمة عنه؟
يقول عيسى محمد السويدي، من صندوق أبو ظبي للتنمية: "إن مسألة الأمن الغذائي لا تتعلق فقط بأبوظبي أو الإمارات. فقد أصبحت أخيرا موضوعا ساخنا في كل مكان". وهو يؤكد ما يعرفه الجميع بالفعل: صفقات الأراضي هي استجابة على الاضطراب في أسواق الغذاء.
وبين بداية عام 2007 ومنتصف عام 2008، ارتفع مؤشر الإيكونوميست لأسعار المواد الغذائية 78 في المائة؛ وارتفعت أسعار فول الصويا والأرز أكثر من 130 في المائة. وفي هذه الأثناء، انخفضت المخزونات الغذائية. وفي أكبر خمس دول مصدرة للحبوب، انخفض معدل المخزونات إلى الاستهلاك زائد الصادرات إلى 11 في المائة عام 2009، أي أدنى من متوسطه خلال عشر سنوات الذي بلغ أكثر من 15 في المائة.
ولم تكن زيادات الأسعار فقط هي التي أثارت اضطراب الدول المستوردة للغذاء. فبعض تلك الدول، خاصة الدول العربية، هي دول مصدرة للنفط وكانت عوائدها تتزايد بسرعة كبيرة. وكان بوسعها تحمل الأسعار الأعلى. ولكن ما لم تستطع تحمله هو موجة الحظر التجاري الذي فرضته الدول المصدرة للحبوب، الكبيرة والصغيرة منها، لمنع ارتفاع الأسعار في الوطن. فقد حظرت أوكرانيا والهند صادرات القمح لفترة من الوقت؛ وزادت الأرجنتين الضرائب على الصادرات بصورة حادة. وأثارت مثل هذه الخطوات المخاوف في الخليج بألا تتمكن الدول المستوردة يوما ما من الحصول على إمدادات كافية بأي سعر. وأقنعت العديد من الدول المستوردة للأغذية أنه لا يمكنها بعد الآن الاعتماد على أسواق الغذاء العالمية للحصول على إمداداتها الأساسية.
الشراء المدفوع بالذعر
ما العمل إذن؟ الجواب الواضح هو الاستثمار في الزراعة المحلية وبناء المخزونات. وهذا ما فعلته الدول التي تستطيع ذلك. فالإنفاق على البنية التحتية الريفية هو ثالث أكبر بند في خطة الحوافز الاقتصادية للصين البالغة قيمتها أربعة تريليونات يوان (585 مليار دولار). وقال القادة الأوروبيون إن الأسعار العالية أظهرت السياسة الزراعية الحمائية المشتركة التي يجب الحفاظ عليها, إلا أن الدول الغنية المصدرة للنفط لم تكن تملك هذا الخيار. فقد حققت السعودية اكتفاء ذاتيا في القمح عن طريق إنفاق مبالغ طائلة من المال لإنشاء حقول حبوب في الصحراء. ولكنها تخلت عن برنامج الاكتفاء الذاتي عام 2008 حين اكتشفت أن المزارعين يستهلكون كميات هائلة من المياه - التي تأتي من طبقة مياه جوفية غير متجددة تحت رمال الصحراء العربية. ولكن إذا كانت السعودية تزرع أكثر مما ينبغي من الأغذية، وإذا لم تكن تثق بالأسواق العالمية، فإن الحل الوحيد هو إيجاد أراض زراعية في الخارج. وحذت حذوها دول أخرى في الخليج. وهذا ما فعلته أيضا الصين وكوريا الجنوبية، وهما دولتان لا تعانيان عادة نقص المياه ولكن التوسع الزراعي فيهما يستنزف مناطق زراعة الحبوب الرئيسة الجافة مثل سهل شمال الصين.
وكان نقص المياه هو الدافع الخفي وراء الكثير من صفقات الأراضي. ويقول Peter Brabeck-Letmathe، رئيس مجلس إدارة شركة Nestlé: "لم تكن عمليات الشراء تتعلق بالأراضي، بل بالمياه. لأن شراء الأراضي يعني الحصول على حق سحب المياه المرتبطة بها، وهي مجانية في معظم الدول وقد يكون هذا أثمن جزء في الصفقة." وهو يسميها "الاستيلاء العظيم على المياه".
وبالنسبة للدول التي تسعى للحصول على الأراضي (أو المياه)، فإن عوامل الجذب واضحة. ولكن ماذا عن الدول التي تبيع أو تؤجر مواردها؟ إن هذه الدول متحمسة بما فيه الكفاية، بل وترسل عروضا متنقلة إلى الخليج. وقد سمحت السودان لمستثمرين بتصدير 70 في المائة من المحاصيل، مع أنها المستفيدة من أكبر عملية مساعدات غذائية في العالم. وتعرض الباكستان نصف مليون هكتار من الأراضي وتعد المستثمرين من الخليج أنها ستعين قوة أمنية من 100 ألف شخص لحماية هذه الأصول إذا وقعوا على الصفقات. وبالنسبة للدول الفقيرة، توفر صفقات الأراضي فرصة لعكس مسار عقود عديدة من نقص الاستثمار في الزراعة.
وفي الدول النامية ككل، انخفض متوسط النمو في مردود الحبوب من 3 إلى 6 في المائة سنويا في الستينيات إلى 1 إلى 2 في المائة سنويا الآن، وفقا للبنك الدولي. ويعكس هذا، من بين أمور أخرى، انخفاض الاستثمار العام. وفي الـ 14 دولة التي تعتمد على الزراعة، انخفض الإنفاق العام على الزراعة كنسبة من مجموع الإنفاق العام إلى النصف تقريبا بين الأعوام 1980 و2004. وانخفضت أيضا المساعدات الخارجية للزراعة من حيث القيمة الحقيقية في الفترة نفسها. وكان الأداء الزراعي هو الأسوأ في إفريقيا، حيث تتم معظم أكبر صفقات الأراضي. وقد كان هناك الناتج الزراعي لكل عامل زراعي هو الأدنى في العالم خلال الفترة 1980 إلى 2004، حيث كان ينمو بنسبة تقل عن 1 في المائة سنويا، مقارنة بأكثر من 3 في المائة سنويا في شرق آسيا والشرق الأوسط.
ويعد المستثمرون بالكثير: بذور جديدة، تسويق جديد، وظائف أفضل، ومدارس وعيادات وطرق. وقد قال مسؤول في وزارة الزراعة السودانية إن الاستثمار في الزراعة في بلاده من قبل الدول العربية سيزيد بنسبة عشرة أضعاف تقريبا من 700 مليون دولار عام 2007 إلى ما يقدر بـ 7.5 مليار دولار عام 2010. وسيشكل هذا نصف جميع الاستثمارات في الدولة، كما قال. وفي عام 2007، كان الاستثمار الزراعي يشكل 3 في المائة فقط من المجموع.
وقد أقامت الصين 11 مركز أبحاث في إفريقيا لزيادة غلة المحاصيل الأساسية. وهذا أمر مطلوب: تنفق دول إفريقيا جنوب الصحراء أقل بكثير من الهند على الأبحاث والتطوير في مجال الزراعة. ومن المفترض أن يساعد الاستثمار المزارعين، حتى لو لم يكن هناك أنواع بذور جديدة أو طريق ري بالتنقيط. وأحد أكبر القيود في الزراعة الإفريقية هو عدم القدرة على اقتراض المال لشراء الأسمدة. وإذا ساعد أصحاب الأراضي الجدد المزارعين على الحصول على الائتمان، سيحدث هذا فرقا كبيرا.
ولكن لا بد من اتخاذ جانب الحذر. فالزراعة في إفريقيا صعبة. فهي عبء كبير وتحطم الطموحات الساذجة للغرباء. وبالحكم على حجم المشاريع حتى الآن، يبدو أن المستثمرين الجدد يعلقون آمالهم على إقامة مزارع كبيرة متطورة تكنولوجيا. وقد نجحت مثل هذه المزارع في أوروبا والأمريكيتين. ويقول Paul Collier من جامعة أكسفورد أن إفريقيا تحتاج إليها أيضا: "الزراعة الإفريقية الريفية لا تواكب الإنتاجية التجارية المتقدمة".
ولكن للأسف فإن تاريخ المزارع الكبيرة في إفريقيا ضعيف، فالمزارع ذات الأداء الأفضل تحولت بعيدا عن المحاصيل الأساسية إلى المحاصيل ذات القيمة الأعلى مثل الزهور والفواكه. وغالبا ما كان ينتهي الأمر بمخططات الزراعة المؤتمتة لزراعة المحاصيل الأساسية بترك الآلات تصدأ في الغابات المهجورة. علاوة على ذلك، غالبا ما يكون لكبار المزارعين علاقات جيدة ويقضون وقتا أطول في الضغط للحصول على مزايا خاصة بدلا من القيام بالعمل الشاق.
وتفرض السياسة من نوع مختلف مشكلات أكثر إلحاحا. ففي مدغشقر هذا العام، أدى العداء الشعبي لصفقة لتأجير 1.3 مليون هكتار- نصف الأراضي الصالحة للزراعة في الجزيرة - إلى شركة Daewoo Logistics من كوريا الجنوبية، إلى إشعال نيران المعارضة وأسهم في الإطاحة بالرئيس. وفي زامبيا، أعلن زعيم المعارضة الرئيسية رفضه لمشروع الصين المقترح بزراعة مليوني هكتار بالوقود الحيوي- وهددت الصين بالانسحاب من زامبيا إذا وصل إلى السلطة. ويشتكي رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الكمبودي أن لا أحد يعرف الشروط التي يتم عرضها على الكويت لاستئجار حقول الأرز.
ويصف رئيس منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، Jacques Diouf، بعض المشاريع بأنها "شكل من أشكال الاستعمار الجديد". ويصر أحد مسؤولي وزارة الزراعة الصينية أن بلاده لا تسعى لشراء الأراضي في الخارج، مع أنه يضيف "يسعدنا أن نساعد إذا كان هناك طلبات". (وفقا لأحد التقديرات، وقعت الصين 30 صفقة تعاون زراعي تشمل أكثر من مليوني هكتار منذ عام 2007).
والاعتراضات على مثل هذه المشاريع ليست بهدف المعارضة فقط، فالصفقات تولد خاسرين وفائزين، وتزعم الحكومات المضيفة عادة أن الأراضي التي يعرضونها للبيع أو التأجير شاغرة أو مملوكة للدولة، وهذا ليس صحيحا دائما. فالأراضي "الفارغة" تدعم غالبا الرعاة الذين ترعى حيواناتهم فيها. وقد تكون الأراضي مملوكة رسميا للدولة ولكن فيها أشخاص يزرعونها منذ أجيال. ويتم الاعتراف محليا بحقوقهم العرفية (التي حصلوا عليها بحكم العرف والممارسة)، ولكنها غالبا غير مقبولة قانونيا، أو حين يتعلق الأمر بصفقة استثمار خارجي.
وبالتالي كثيرا ما تثير الصفقات العداء بين مجموعات مختلفة في الدول المضيفة، والسؤال هو كيف يمكن حل مثل هذه النزاعات، ويقول المتحدث باسم الرئيس الكيني: "إذا أردت أن يستثمر الناس في دولتك يجب أن تقدم تنازلات". (يشير إلى الصفقة التي عرضت فيها قطر بناء ميناء جديد مقابل زراعة محاصيل في دلتا نهر تانا، الأمر الذي عارضه المزارعون المحليون ودعاة الحفاظ على الطبيعة). والمشكلة هي أن هذه التنازلات تكون عادة من طرف واحد. ويتم طرد أصحاب الأراضي الذين حصلوا عليه بحكم العرف من الأرض التي كانوا يعتقدون أنها لهم. ويتم لي ذراع صغار الملاك للتنازل عن حقوقهم لقاء مبالغ زهيدة.
وهذا أمر مقلق بحد ذاته، ويثير الكثير من المعارضة المحلية، حيث لا يمكن تنفيذ بعض الصفقات. فقد أجلت مجموعة بن لادن السعودية مشروعا بقيمة 4.3 مليار دولار لزراعة الأرز في 500 ألف هكتار في إندونيسيا. وأجلت الصين صفقة تشمل 1.2 مليون هكتار في الفلبين.
ضوابط المزارع
ويقول Joachim von Braun، رئيس المعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية، إن أفضل طريقة لحل النزاعات، حيث يكون الجميع فائزين هي أن يوقع المستثمرون الأجانب على مدونة سلوك لتحسين شروط الصفقات بالنسبة للمحليين. وتعكف العديد من الهيئات الدولية على كتابة نسخ خاصة بها من مدونات السلوك، بما في ذلك الاتحاد الإفريقي، الذي من المقرر أن يصادق على أحدها في قمة سيتم عقدها في تموز (يوليو).
وتعني الممارسة الجيدة احترام الحقوق العرفية، وتقاسم المنافع بين المحليين (أي ألا تجلب عمالك فقط)، وزيادة الشفافية (الصفقات الحالية محاطة بالسرية)، والالتزام بالسياسات التجارية الوطنية (ما يعني عدم التصدير إذا كانت الدولة المضيفة تعاني مجاعة). وتبدو هذه الأمور كلها رائعة، إلا أن السودان وإثيوبيا تعانيان المجاعة الآن: هل يجب عليهما الامتناع عن توقيع صفقات الأراضي تماما؟ يتم ارتكاب العديد من أسوأ الانتهاكات من قبل الشركاء المحليين للمستثمرين الأجانب: هل سيتم تقييدهم من قبل المدونات الدولية؟
هناك الكثير من الأسباب التي تدعو للشك بهذه الصفقات، فإذا تمكنت هذه الصفقات من عكس مسار الانخفاض الذي دام طويلا في الزراعة في الدول الفقيرة، ستكون مبررة. ولكن مثل أي مشروع زراعي كبير، ستستغرق هذه الصفقات سنوات عديدة لكي يظهر تأثيرها الكامل. وفي الوقت الحالي، تتمثل الاستجابة الصحيحة في تأجيل الحكم ومراقبة تقدمها بحذر وأمل.