ثقافة وفنون

النكتة هتاف الصامتين وتكثيف لرؤية فلسفية

النكتة هتاف الصامتين وتكثيف لرؤية فلسفية

لا مضحك إلا ما هو إنساني.

النكتة فن أدبي شعبي، يقوم على حبكة قصصية تمزج بين المنطق واللامنطق، في سلسلة من الكلمات عادة ما لا تتجاوز الجملة الواحدة، تحمل فكرة عميقة تؤدي دورها في المعنى، ويصاحبها شعور بالمتعة والضحك. تتميز النكتة - قياسا بباقي فنون السخرية - بأسلوب لغوي مكثف، ومضمون شديد التركيز، قادر على النفاذ بسهولة ويسر إلى العقول والأفئدة.
تعد النكتة إبداعا من صميم الوعي المجتمعي، فلا يمكن التحكم في مصدرها ولا ضبط إيقاعها، ولا حتى إيقاف تداولها. فهي بنت المجتمع ومرآة صادقة تكشف جوانبه الخفية سواء كانت مواقف أو رغبات أو تطلعات، كما أنها لسان حاله الذي يستعين به للتعبير عن نفسه في مختلف المواقف، في أوقات الجد كما في لحظات الهزل، في النقد الاجتماعي والسخرية السياسية.. إنها من منظور علماء الاجتماع ترمومتر "مقياس" يسمح برصد المزاج الشعبي، وقياس أوضاع المعيشة اليومية لشعب أو أمة.
تاريخيا، تصعب نسبة هذا الفن الشعبي الشفوي إلى حضارة بعينها، أو حتى الحديث بدقة عن لحظة نشأة أو ولادة، لكونه جزءا من الأدب الشفهي الذي أنتجته الشعوب عبر تطورها التاريخي. لكن تيارا من الباحثين، في إعمال معايير النكتة في الحقبة المعاصرة، يصر على ردها إلى زمن الإغريق، وتحديدا القرنين الرابع أو الخامس الميلادي، وسندهم في ذلك كتاب بعنوان "الحبيب الضاحك" Philogelos، الذي يحتوي على 264 نكتة، على شاكلة المتداولة اليوم، نذكر منها "سأل حلاق أجيرا: كيف تريدني أن أقص شعرك؟ فأجاب الأجير: في صمت!".
يرى فريق آخر، أن هذا الفن حضر بأشكال متفاوتة لدى الشعوب، مع نشأة وتطور اللغة أولا، وتعقد الحياة الإنسانية ثانيا، فهو استجابة لحاجة إنسانية على غرار باقي الفنون الأخرى. وأقدم نكتة مكتوبة على ورق البردي - بحسب هؤلاء - يعود تاريخها إلى عام 3200 قبل الميلاد في عصر الفراعنة. وقيل إن السومريين القدماء استعانوا بالنكتة والدعابة للتخفيف من متاعبهم ومعاناتهم مع أكبر سلطتين في المجتمع، هما الزوجة والحاكم. ويحتفظ اليونانيون بحقوق ملكية تأسيس أول ناد كوميدي، كان هدفه مشاركة النكات مع الأصدقاء بدل الوقوف وإلقائها.
يعزز حضور شخصيات شعبية مرتبطة بالفكاهة والدعابة والتنقيب في ثقافات عدة شعوب من رجاحة هذا الرأي، فالعرب مثلا صمموا شخصية "جحا" بشكل يتلاءم مع طبيعة ظروف حياتهم الاجتماعية، وحضر "ناصر الدين خوجه الرومي" في تركيا، وفي بلاد فارس نجد "ملا نصر الدين"، وصنع الأرمن شخصية "أرتين"، صاحب اللسان الطويل، وابتكر البلغاريون المحبوب "غابروفو"، فيما فضل السلاف شخصية "آرو" المغفل، وظهر التأثير العربي واضحا في إيطاليا ومالطا بحضور شخصية "جوخا" في التراث الشعبي.
تزايد الاهتمام بدراسة النكتة، والبحث الأكاديمي في "الميكروقصة"، كما يصفها البعض، في العقود الأخيرة، واختير الفاتح من تموز (يوليو) يوما عالميا للاحتفال بها، بعدما أصبح هذا الابتكار الإنساني الذكي مدار مطارحات عدد من الفلاسفة. فقد عدها هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي، صاحب "نوبل" في الآداب، صرخة المقهورين الصامتين، بقوله "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين، إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه".
ولم يتردد سيجموند فرويد عالم النفس النمساوي، في النظر إلى مركزية النكتة في الوعي الجمعي للشعوب، فهي سلاح الضعيف ضد القوي، وسلاح الأقلية ضد الأغلبية، وهجوم مجهول الصاحب أو المصدر، في وضع مصنف بعنوان "النكتة وعلاقتها باللاوعي"، كشف فيه الأثر العميق للنكتة وقدرتها على كشف الأفكار الحقيقية للإنسان، وعد فيه سخرية الإنسان من أحواله من آليات الدفاع النفسي، وطريقة للتأقلم والحماية من الوقوع في فخ الاكتئاب العميق.
واستطاع سلافوي جيجيك الفيلسوف السلوفيني أن يترجم علميا قول الفيلسوف النمساوي دفيج فتجنشتاين، بإمكانية كتابة عمل فلسفي جاد يكون بالكامل من النكات، في كتاب "نكات جيجيك" (2014) يعرض فيه عشرات النكات التي يوظفها في سياق فلسفي وسياسي. فالنكتة - بالنسبة إليه - قصة مسلية تقدم اختصارا للرؤية الفلسفية، طالما اعتمدها الفيلسوف وسيلة للشرح والتمثيل ونقد الأطروحات والمحاججة الفلسفية في مؤلفاته طيلة ربع قرن. وامتدت موضوعاتها لتشمل القضايا الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني طوال القرن الماضي، كالعنصرية والهوية والدكتاتورية والرأسمالية والديمقراطية والإرهاب والماركسية والاشتراكية والعقائد الدينية والتطرف والتوترات الطبقية والجنس...
بعيدا عن الفلسفة، شغلت النكتة بال رجال السياسة على الدوام، حتى قيل إنها استطلاع للرأي الشعبي والجماهيري، فالرئيس الفرنسي شارل ديجول امتعض كثيرا في آخر أيام حكمه، بعد تدني حدة تداول النكت السياسية عنه، "لقد تدنت شعبيتي في فرنسا، فأنا لا أرى نفسي في الرسوم الكاريكاتورية ولا أسمع اسمي في النكتة التي تنتقدني". وكان لدى الرئيس المصري جمال عبدالناصر وحدة في المخابرات، تعنى برصد النكات، لمعرفة ما يفكر فيه المصريون. وطور خلفه أنور السادات المسألة إلى تكليف الجهاز بإعداد تقرير يومي - بحسب شهادة وزير داخليته حسن أبو باشا - يسمى "نكات الصباح"، كان أول ما يستهل به يومه في الرئاسة. وكان الملك الراحل الحسن الثاني شديد الاهتمام بالتعرف على النكتة السائدة، ولا سيما ما يطلق عليه شخصيا.
يحكى أن الزعيم السوفياتي خروشوف كان بارعا في النكتة، فخلال زيارته الولايات المتحدة الأمريكية، قال له الرئيس جون كينيدي متباهيا "نحن دولة ديمقراطية، إذ يستطيع أي مواطن أمريكي أن يقف أمام البيت الأبيض ويصرخ: كيندي غبي، ولن نفعل له شيئا"، فما كان من خروشوف إلا أن أجابه "ونحن كذلك، فبإمكان أي مواطن سوفياتي أن يقف أمام الكرملين، ويصرخ: كيندي غبي، من دون خوف".
وحضرت النكتة بقوة في الصراع السياسي والسخرية من الأنظمة، فقيل إن امرأة رأت الجمل لأول مرة في حياتها فقالت "انظروا ماذا فعل ستالين بالحصان"، ودفاعا عن السياسات الاشتراكية قيل "ارتفع سعر الدقيق لأنهم أدخلوه في صناعة الخبز"، وسخر البولونيون من نظام ياروزلسكي بقولهم "قبل الثوة الاشتراكية كنا على حافة الهاوية، وبفضل الثورة تقدمنا كثيرا إلى الأمام، أي سقطنا في الهاوية". ودخلت النكتة في المعارك بين الشعوب والقوميات، فاليوغوسلافيون لديهم نكات كثيرة عن مواطني الجبل الأسود المعروفين بالكسل، من بينها قولهم "إن كل واحد من أهالي الجبل الأسود يضع كرسيا إلى جوار سرير نومه، لكي يرتاح عليه عندما يستيقظ".
يحرص هذا السلاح الفتاك - الذي يذبح بدون أن يجرح - على تسجيل حضوره، بكشف مفارقات الواقع بشكل ساخر، في الطبقات بين الأغنياء والفقراء، وفي التمييز بين الرجال والنساء، وفي السياسة بين الحاكم والمحكوم، وفي المجال بين البدوي والحضري، وفي الثقافة بين المتعلم والأمي.. لكنها تبقى مثل الحليب الطازج الذي تنتهي صلاحيته بسرعة، لأنها تصبح قديمة ومستهلكة، لكن سرعان ما تجدد نفسها لتعود مجددا بعد طول غياب، وهذا سر صمود هذا الفن الأدبي الشعبي الجماهيري قرونا من الزمن.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون