FINANCIAL TIMES

السياسة النقدية .. كيف وصلنا إلى هذا المكان الغريب؟

السياسة النقدية .. كيف وصلنا إلى هذا المكان الغريب؟

من المؤكد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي هو أقوى وأكثر مؤسسة يساء فهمها في العالم. لقد تم إنشاؤه منذ ما يزيد قليلا على 100 عام لمهمة واحدة متفردة، ضمان أن البلاد لديها ما يكفي من المال للحفاظ على نمو الاقتصاد إلى أقصى إمكاناته.
لكن بمرور الوقت، أصبح الاحتياطي الفيدرالي يصد نظام السوق العالمي، وفي الأعوام الأخيرة أوجد فقاعة في كل شيء بدأت الآن ـ ببطء ولكن بالتأكيد ـ في الانفجار. نتيجة لذلك، يحاول الاحتياطي الفيدرالي السير في خط مستحيل بين إدارة التضخم الذي ساعد على إطلاقه، والركود الذي قد يتبعه أثناء محاولته تثبيت الأسعار.
كيف وصلنا إلى هذا المكان الغريب الذي لا يطاق؟ قد يلقي بعضهم باللوم على برنامج التسهيل الكمي الهائل الذي تم إطلاقه استجابة للأزمة المالية في 2008، متبوعا بدعم أي عدد من فئات الأصول بعد الجائحة.
قد يقول آخرون إن المشكلات بدأت بعد سبعينيات القرن الماضي، عندما أتاحت نهاية نظام بريتون وودز لمحافظي البنوك المركزية مزيدا من الحرية لتمديد الدورات الاقتصادية. لقد أساء السياسيون الأمريكيون من كلا الحزبين استخدام هذه الحرية، وتجنبوا خيارات سياسة "المدافع أو الزبد" -الإنفاق على الدفاع أو البرامج الاجتماعية- ونقلوا مسؤولية صنع السياسة الاقتصادية إلى الاحتياطي الفيدرالي.
ليف ميناند، مستشار كبير سابق لنائب وزير الخزانة في 2015- 2016 وأستاذ مشارك في كلية الحقوق في جامعة كولومبيا، سيعود إلى أبعد من ذلك، إلى خمسينيات القرن الماضي. في تلك الحقبة كان ويليام ماكيسني مارتن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي.
انفصل مارتن عن نظام "الصفقة الجديدة" المصرفي الذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي وسمح للاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بالبدء في إقراض مجموعة مختارة من الوسطاء غير المصرفيين، ما أدى إلى إنشاء سوق "الريبو". كما يشير ميناند في كتابه الجديد، The Fed Unbound: Central Banking in a Time of Crisis، كانت هذه بداية لدورة خطيرة من الابتعاد عن الأهداف الأصلية.
حتى آنذاك، اشتكى الكونجرس من أن تصرفات الاحتياطي الفيدرالي كانت غير قانونية. رد مارتن ببساطة بأن طلب منهم تعديل القانون. لم يفعلوا ذلك أبدا، لكن نظام مصرفية الظل - في شكل كل شيء، بدءا من الريبو ودولارات اليورو إلى الأوراق التجارية وصناديق أسواق المال - نما واستمر الاحتياطي الفيدرالي في دعم كل كيانات الظل هذه. ازداد حجم النظام وتم إنشاء أنواع جديدة من مصرفية الظل، ما أسهم في إضفاء طابع "الرأسمالية المالية" financialisation على الاقتصاد، مع ما ارتبطت به من نمو أبطأ، وزيادة في عدم المساواة، ومزيد من التقلبات المالية.
يكافح الاحتياطي الفيدرالي اليوم للتغلب على التضخم. لكن كما يشير ميناند، لم تكن محاربة التضخم جزءا من التفويض الرسمي للبنك المركزي حتى 1977. بينما كان على بول فولكر الرئيس الأسبق للاحتياطي الفيدرالي، التخلص مما "يعقد الأمور" وهو مصطلح صاغه مارتن لأول مرة في 1981 مع زيادة سعر الفائدة بالطريقة الصعبة، وقد سمحت قوته في بعض النواحي بمزيد من الضعف في الكونجرس.
يقول ميناند، "كان هناك شعور بين السياسيين المنهكين من التضخم أنه إذا كان بإمكانه إصلاحه، فدعوه". ومنذ ذلك الحين ابتعد كل من الكونجرس والسلطة التنفيذية بشكل متزايد عن تبني نهج شامل للاستقرار المالي، مفضلين ترك الاحتياطي الفيدرالي يتحمل عبء صنع السياسة الاقتصادية. لكن كل ما يمكن للبنك المركزي فعله هو تعزيز أسعار الأصول. فلا يمكنه اختراع أفكار تجارية جديدة، أو إعادة تدريب العمال، أو طرح صفقات خضراء جديدة، أو إعادة التفكير في التجارة.
كتب ميناند أن الأمل في أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي - هيئة تكنوقراطية غير منتخبة ولديها أدوات محدودة - بإصلاح ما ينهار في اقتصادنا بطريقة سحرية تشبه "توقع أن تعالج المحكمة العليا مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية". الإجراءات التي اتخذتها المحكمة أخيرا لها تأثير معاكس. ومن المحتمل ألا تنتهي معركة الاحتياطي الفيدرالي الحالية مع التضخم بشكل جيد أيضا. ويمكن أن يؤدي الهبوط الحاد وتوجيه أصابع الاتهام الذي سيتبع ذلك، بالتأكيد، إلى مزيد من السياسات المتطرفة التي رأيناها على جانبي المحيط الأطلسي بعد الأزمة المالية الكبرى.
إذن، أين نذهب من هنا؟ ربما في جولة أخرى من إصلاح الاحتياطي الفيدرالي، على الرغم من عدم احتمال حدوث ذلك قبل وقوع أزمة كبيرة. كان قانون الاحتياطي الفيدرالي الأصلي لـ1913 نتيجة عقدين مليئين بالأزمات المالية. في الواقع، أمضينا نصف الأعوام بين 1890 و1913 في ركود.
ربما نكون متجهين نحو الانكماش الآن. عندما تخرج الأسواق من أي فوضى يمكن أن تنشأ على مدى الأعوام القليلة المقبلة، سنحتاج إلى إيجاد طريقة يؤدي بها الاحتياطي الفيدرالي بشكل أفضل مهمته الأصلية المتمثلة في إدارة المعروض النقدي ودعم النظام المصرفي، دون ضمان حدوث مزيد من الفقاعات في قطاع مالي شاسع يتسم بالمضاربة ويخدم نفسه بصورة رئيسة.
من غير المحتمل أن يتوقف السياسيون عن توجيه الاتهامات في صنع السياسات، أو أن يتم إخضاع نظام مصرفية الظل للتدقيق من خلال المواثيق الرسمية، في أي وقت قريب. ربما يكون الحل الأبسط والأكثر كياسة على المدى القصير هو السماح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بالتركيز بدرجة أقل على المؤسسات المالية وبدرجة أكبر على الأشخاص الحقيقيين.
تتمثل إحدى الأفكار في أن يحتفظ الأفراد بحسابات في الاحتياطي الفيدرالي. يمكن أن توفر المحافظ الرقمية وسيلة للبنوك المركزية لتوجيه الأموال بشكل أكثر دقة وبشكل مباشر إلى الأماكن التي تحتاج إليها أثناء الأزمة. "يمكن أن يتم توجيه المال للناس على شكل أسهم، وليس للبنوك، بشروط وأحكام محددة، في أوقات محددة"، كما يقترح ميناند.
هذا ليس حلا للمشكلات الأكبر لاقتصادنا السياسي، لكنه قد يساعد البنك المركزي على الوفاء بمهمته الأساسية بشكل أفضل، وضع الأموال حيث تقوم الحاجة إليها حقا.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES