ثقافة وفنون

تقنية «السيلفي» .. رؤية مغايرة للإنسان والعالم

تقنية «السيلفي» .. رؤية مغايرة للإنسان والعالم

الإنسان الجديد بات يمتلك هوية تستمد أسسها من قواعد وبيانات رقمية مشفرة.

لا يخفى على أحد اليوم أن العالم يعيش على إيقاع ثورة تكنولوجية، يمكن وصفها بثورة كوبرنيكية، جعلت من التقنية كينونة الإنسان المعاصر، الشيء الذي أعطى الحياة الإنسانية هوية جديدة، إذ سادت السبرنطيقا "الرقمية" في كل مناحي الحياة وتحول الهاتف الذكي "سمارت فون" إلى عضو بيولوجي جديد تستحيل الحياة بدونه.. وبالنظر الى نمط عيش الإنسان الجديد، يمكننا القول إن التكنولوجيا أحدثت انقلابا جذريا في الحياة المعاصرة.. وكنتيجة لهذا التطور، عرف العالم تحولات جذرية انعكست على مختلف مناحي الحياة الإنسانية، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، خاصة مع ظهور الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأخيرة غدت ملاذا للعيش والتواصل بفضل نتائج التقنية والتأثير السيبراني، وما وفرته من وسائل تخدم الإنسان في علاقته بذاته وبالعالم.. بحسب ما يرصده الباحث والمختص كمال السكيس في دراسته حول هذا الموضوع.
هذه الوسائل التي أفرزتها التكنولوجيا تحولت إلى ضرورات طبيعية تنثر سحرها الأخاذ على الوجود الإنساني، بفضل التكنولوجيا المعلوماتية - الرقمية المتطورة، والشبكات العنكبوتية التي جعلت العالم يتحدث لغة واحدة، خاصة مع استحداث المنصات الإلكترونية التي أصبحت فضاء للتداول والتفاعل بين أفراد المجتمع الافتراضي، بوصفه مجتمع الثورة الرقمية التي دمجت نظم الدلالات الثلاث المعروفة: المكتوب/ الصوت/ الصورة، في نظام يمكن من نقل الصوت والصورة والكتابة بسرعة الضوء، ما جعل الإنسان المعاصر يستمد هويته من هذا النظام السبرنطيقي المعولم والعجيب، فانعكس ذلك على نمط عيش الإنسان ونظرته إلى الحياة، وغدت هذه الأخيرة ضرورة من ضروريات الحياة، وملجأ يهفو إليه الجميع، لما تنتجه هذه الوسائل من هامش التواصل بكل حرية.. الشيء الذي أسهم في بناء رؤية مغايرة للإنسان والعالم.
إن هذا التطور التكنولوجي خلف جيلا جديدا له كينونة ورؤية خاصة للحياة وقضايا المعيش اليومي، حيث أصبح ما هو إنساني امتدادا لما هو تقني-رقمي، ما جعل الفيلسوف ميشل سير ينعته بجيل الإصبع الصغيرة poussette petite بقوله "ومن دون أن نلاحظ نحن أي شيء قد ولد الإنسان الجديد، وولادة إنسان جديد تعني ولادة جيل لا يفارق هاتفه النقال الذي تحول إلى رفيق مفضل ومعشوق جديد لا يستطاع استنشاق الأكسجين دونه، فنجد طفلا تجاوز فترة الرضاعة بأيام قليلة قادرا على استخدام إصبعه الصغيرة والسباحة في عالم الإنترنت ومشاهدة مقاطع مصورة واختيار لعبة إلكترونية، بل أكثر من ذلك تجده قادرا على نقر أبواب العوالم الافتراضية عبر كل التطبيقات المتاحة. إنه الإنسان الجديد - على حد تعبير الفيلسوف.. والإصبع الصغيرة كما سبق الذكر، تشير إلى الجيل الجديد الذي أفرزته الحياة المعاصرة خلال العقود الماضية عبر ما وفرته التقنية من إمكانات تواصلية - رقمية جعلت من المستحيل ممكنا، فولد "إنسان منعزل أمام شاشته، وبعيدا عن جماليات الطبيعة ومغتربا عنها".
وهكذا، فالإنسان المعاصر الذي اغترب عن الطبيعة وجمالياتها، لم يعد يهمه البحث عن مكامن الجمال بالتجربة المباشرة، بل يبحث عن الجمال من وراء شاشات تصور، وتدقق، وتضفي على ما تصوره لمسة يدوية خاصة - ونحن نتحدث هنا - عن فترة هيمنة الصورة. هذا التحول ليس وليد الصدفة، بل مرجعية انطلاقه هي سلطة الصورة التي ترسخت بفضل وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، إذ نجد هذه الأخيرة كرست ثقافة العين على حساب ثقافة الفكر، الافتراضي على حساب الواقعي، فلم يعد للكوجيطو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود" - في زمن "المباشر" السطحي "اللايف" وثقافة الصورة - ذلك التأثير والزخم، رغم ما أحدثه من ثورة فكرية وعلمية في العصر الحديث. فإذا كان الوعي أساس إثبات الأنا، مع "ديكارت"، فقد أصبحت الأنا في عصر التكنولوجيا عبارة عن ظاهر منمق، ولم يعد للذات المفكرة وزن في تجلياتها، بل صارت الذات رهينة حياة افتراضية وصلت بها حد الإدمان، والنتيجة هي الانتقال من براديجم الأنا المفكرة - الواقعية إلى براديجم الأنا الرقمية - الافتراضية، أو على حد تعبير مصطفى شكدالي المفكر وعالم النفس الاجتماعي المغربي، قد تشكلت هوية وسيكولوجية الإنسان المرقمن الذي يعيش في عالم افتراضي مواز.. وهذا التحول الخطير هو ما حاولت إلزا جودار تحليله وتعميق النقاش فيه من خلال كتابها "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود.. تحولات الأنا في العصر الافتراضي"، أملا في إيجاد حلول لمخاطره على الذات والإنسان عموما.
نجد الزا جودار المحللة النفسانية والفيلسوفة الفرنسية تؤسس لكوجيطو جديد هو "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"، مستحضرة بذلك ما يعيشه الإنسان اليوم في ظل الثورة التكنولوجية من خلال كتابها "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"، تحولات الأنا في العصر الافتراضي". فموضوع الكتاب هو السيلفي الحاضن لكل أشكال الوهم والتيه والزيف الذي يكتنف الحياة المعاصرة.. فاختيار المؤلفة إلزا جودار، "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود" عنوانا لكتابها، بديلا لعبارة أساسية في تاريخ الفلسفة فيما يصطلح عليه بـ"الكوجيطو الديكارتي"، "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لرينيه ديكارت فيلسوف عصر النهضة الفرنسي، يشير إلى أن "السيلفي" وصلت إلى مرحلة بالغة الأهمية، وهي شهادة إثبات على رسوخ قدم "الذات الرقمية الافتراضية " في الحياة الاجتماعية، وبلوغها مرحلة بالغة الحساسية، إنها - بتعبير أدق - رؤية جديدة بشكل أو بآخر، أو لنقل هي بمنزلة عادة مستحكمة في حياة الإنسان المعاصر، بحيث يتعذر الاستغناء عنها أو تجاهلها في المستقبل البتة. وهي مؤشر حقيقي على ميلاد ذات رقمية أو "أنا" جديدة ينبغي ويفترض إعادتها باستمرار، كشرط مهم لثورة أكثر جدة وتحررا من ذي قبل.
إن هذا التحوير الذي قامت به جودار على غرار الكوجيتو الديكارتي، لم يقتصر على مستوى العبارة فحسب، بل تجاوزه وتعداه - باعتباره محاولة جادة وعملية - أريد بها وضع الإنسان أمام حقيقة أنطولوجية فيما يعيشه هذا الكائن من قطائع تنقله من براديجم إلى آخر، ما ينتج عنه تحولات مجتمعية جذرية تعصف بمسلمات وقناعات العصر السابق، وتكشف حجم الانقلابات التي مست الحياة الإنسانية في الصميم بفعل التطور التكنولوجي، فقد حاولت الكاتبة الإحاطة بالتغيرات البنيوية التي مست الوجود الإنساني، إذ نعيش في عصر تهيمن فيه التقنية وتسلب فيه المواقع الافتراضية وجودنا الخاص والاجتماعي. فما نسميه عالما افتراضيا - حسب بيير ليفي - أصبح يستوعب، تقريبا كل شيء، أجسادنا وذكاءنا ورسائلنا ونصوصنا وما نمتلك ونتبادل، كل هذا مسته اليوم حركة التحويل إلى الافتراضي. هذه الحركة السريعة والمعولمة مست حتى طرقنا في أن نكون معا، إذ أصبح بالإمكان أن نكون "مجموعة افتراضية" أو "أصدقاء افتراضيين" أو "مؤسسة افتراضية" أو "ديمقراطية افتراضية".
وانطلاقا من مسألة تبدو لنا بسيطة وعادية، تنبهت الزا جودار بحس فلسفي رصين إلى أن انتشار ومشاركة الصور الخاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي ولدا هيمنة خفية تجلت في سلطة الصورة وتأثيرها في الواقع الاجتماعي، بحيث يعمد الكل إلى التهافت على التقاط الصور بغرابة لم يسبق لها مثيل، بغية تسريع وتيرة نشرها في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، فظهرت موجة الصورة الذاتية أو ما يصطلح عليه "السيلفي"، التي أصبحت نمطا لوجود الكائن المعاصر، وتعبيرا واقعيا عما نعيشه اليوم من استلاب واغتراب في ظل هيمنة التقنية، ما أدى إلى ترسيخ قناعة نظرية مفادها أننا نعيش في عالم جديد، عالم الهواتف الذكية والتكنولوجيا الساحرة التي استحوذت على حياتنا ووقتنا، وصارت ثقافة تسكننا على نحو غريب، ولم نعد قادرين على فراقها، إذ انتشرت واخترقت كل الأمكنة الخاصة والعامة.
وبعودتنا إلى الرجة الكبيرة التي أحدثها الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن القول إننا نشهد اليوم بروز جيل جديد يعيش في عالم مختلف جذريا عن العوالم الواقعية التي عاش فيها أسلافنا، ما شكل انقلابا في بنية التفكير وطريقة النظر إلى الواقع، وتشكل النسيج المجتمعي، وبطبيعة الحال ظهر "براديجم" جديد قلب أساليب العيش ونمط الحياة اليومية وأسهم في بناء كينونة الإنسان الجديد، الذي يمتلك هوية تستمد أسسها من قواعد وبيانات رقمية مشفرة، إنسان يرى أن الغاية الكبرى من الوجود هي امتلاك هاتف ذكي متطور لالتقاط الصور وتحميل التطبيقات والألعاب الإلكترونية. كل هذا نابع من سلطة التقنية التي اقتلعت الإنسان من وجوده الأصيل وجذوره الطبيعية الخالصة، وأدخلته عالم الوهم والزيف، ليصبح نمط الوجود مع الأغيار تافها بروتين يومي قاتل، فانتصرت بذلك "الدوكسا" على حساب الحقيقة.. وكاستجابة موضوعية لتحولات العصر والهيمنة التي فرضها الهاتف الذكي، تبين الزا جودار ما خلفته ثقافة "السيلفي"، أو لنقل ثقافة "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"، التي تجسد "كوجيطو" العصر الجديد.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون