هل نعيش في عالم افتراضي؟ احتمال لا يمكن استبعاده

هل نعيش في عالم افتراضي؟ احتمال لا يمكن استبعاده
هل نعيش في عالم افتراضي؟ احتمال لا يمكن استبعاده
الكاتب ديفيد تشالمرز.

أثار ظهور "الميتافيرس" الصاخب بشدة كثيرا من الحماس، والسخرية. بالنسبة لمروجيه المأسورين والأقوياء في شركة ميتا "المعروفة سابقا باسم فيسبوك" وشركة مايكروسوفت، ستضيف واجهة حاسوبنا العالمية التالية بعدا إضافيا للواقع، ما سيسمح للمستخدمين بالعيش والعمل واللعب في عوالم افتراضية بديلة.
بالنسبة لمنتقديه، فإن "الميتافيرس" هو محاولة تلاعب من قبل الشركات العملاقة لإعادة صياغة تكنولوجيا الواقع الافتراضي غير المثيرة الخاصة بهم، واستعمار مساحات جديدة من الإنترنت وتجاوز الجهات التنظيمية.
يقدم "الميتافيرس" بالنسبة للكاتب ديفيد تشالمرز وجهات نظر مثيرة وجديدة لفهمنا للهوية والوعي والفاعلية، التي كان زملاؤه الفلاسفة يستكشفونها منذ آلاف الأعوام.
يتحدى الواقع البديل بالفعل بعض تصوراتنا المسبقة حول الواقع بطرق لم يتم تحديها من قبل، ما يفتح ملاعب فلسفية جديدة. يلخص تشالمرز هذا المجال الجديد من "الفلسفة التكنولوجية"، كما يسميها، على النحو التالي، "تساعد الفلسفة في إلقاء الضوء على الأسئلة "الجديدة في الأغلب" حول التكنولوجيا. وتساعد التكنولوجيا في تسليط الضوء على الأسئلة "القديمة في الأغلب" حول الفلسفة".
يبدأ كل فصل من فصول كتابه وعددها 24 بأحد هذه الأسئلة ويتصارع مع كيفية إعادة تفسير الألغاز الفلسفية القديمة في عصر "ريالتي+". ما هو الواقع؟ هل من الممكن وجود وعي في عالم رقمي؟ كيف ينبغي أن نبني مجتمعا افتراضيا؟
إن المؤلف مجهز جيدا لطرح مثل هذه الأسئلة وهو حتى أكثر مهارة في رسم بعض الإجابات المذهلة. لطالما اهتم أستاذ الفلسفة الأسترالي المولد، والمناصر لألعاب الحاسوب والخيال العلمي، بالتكنولوجيا، بعد أن علم نفسه كتابة كود الحاسوب الأساسي عندما كان صبيا في العاشرة من عمره وقضى وقتا في غرف دردشة افتراضية مع فلاسفة آخرين خلال عمليات الإغلاق بسبب كوفيد. وإنه ينسج ببراعة النقاط الدقيقة للفلسفة الصينية القديمة والازدواجية الديكارتية مع ميتافيزيقيا أفلام ماتريكس وألعاب الحاسوب وورلد أوف ووركرافت. وهو يؤكد أن كتاب الخيال العلمي فكروا بعمق مثل الفلاسفة في كثير من القضايا التكنولوجية.
وبصفته مديرا مشاركا لمركز العقل والدماغ والوعي في جامعة نيويورك، فإن تشالمرز يشتهر بشكل أفضل بكتاباته حول كيف يمكن للأدوات التكنولوجية أن توسع عقولنا وبصياغة "المشكلة الصعبة" للوعي، التي تحولت إلى مسرحية بالاسم نفسه من قبل توم ستوبارد.
قد يكون العلماء قد طوروا فهما تقريبيا للمشكلة السهلة نسبيا للسلوك الموضوعي. لكن تشالمرز كرس حياته المهنية للتعامل مع اللغز الأكثر صعوبة للوعي والتجربة الذاتية، الذي ليس له تفسير مقنع في المجال المادي المعروف. كتب عن افتتانه الدائم بالموضوع، "كان الوعي أكثر الأشياء المألوفة في العالم – لكنه أيضا الأمر الأقل فهما بالنسبة لنا".
في كتاب "ريالتي+"، يقوم تشالمرز بادعاء واحد كبير وكثير من الادعاءات الصغيرة. وتتمثل وجهة نظره المركزية في أنه خلال العقود القليلة المقبلة سيصبح الواقع الافتراضي غير قابل للتمييز عن الواقع المادي، ما سيجعل التمييز بين الاثنين بلا معنى. في النهاية، ستصبح الصور الرمزية "أو ألعاب المحاكاة" الخاصة بنا كيانات واعية بشكل كامل، ويحق لها التمتع بالحقوق نفسها والمسؤوليات والحماية التي تتمتع بها أنفسنا المادية. ويكتب، "إن الواقع الافتراضي هو الواقع الحقيقي".
إذا كان ذلك حقيقيا، فإن هذا يثير جميع أنواع التعقيدات حول كيف يمكن أن نعيش حياة جيدة بشكل غير مادي وكيف يتم تشغيل وتنظيم مساحاتنا الافتراضية المشتركة. حتى إن تشالمرز يتصور يوما تكون فيه أجهزة الحاسوب قوية بما يكفي لتكرار 86 مليار خلية عصبية في دماغ بشري، ما يسمح لنا بتحميل عقولنا، واتخاذ شكل افتراضي تماما والعيش إلى الأبد "على افتراض أن الحاسوب لن يتعطل".
في الوقت الحالي، يرى تشالمرز أننا نتعثر نحو نظام تتحكم به الشركات، حيث سيتم تكريس القوانين والأعراف التي تحكم حياتنا في أحكام وشروط الشركات التي تدير المنصات، وهو وضع حافل بالتوتر. ويشير إلى أن المستهلكين الافتراضين سيطالبون بشكل متزايد بحقوق المواطنين الافتراضيين ويطالبون بالحرية والمساواة والإطاحة بديكتاتوريات الشركات. سيؤدي هذا الانتقال إلى عالم يتمحور حول الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي إلى إعادة هيكلة مجتمعنا بأكمله. ويكتب، "سيؤدي هذا بشكل قطعي إلى اضطرابات سياسية، وربما إلى ثورة سياسية".
منذ زمن الفلاسفة اليونانيين والصينيين القدماء، شككنا في طبيعة الواقع وإمكانية أن نعيش في عالم وهمي أو محاكى. حيث كتب جوانج زي، الذي عاش في الصين في القرن الرابع قبل الميلاد، عن حلم تحول فيه إلى فراشة. عند الاستيقاظ، سأل، هل كان حقا جوانج زي يحلم بأنه فراشة أم أنه كان فراشة تحلم بأن تكون جوانج زي؟ لم نقترب بعد من حل نهائي لمثل هذه التساؤلات اليوم. وكتب تشالمرز، "عالم الأحلام هو نوع من العالم الافتراضي دون جهاز حاسوب".
إن كان للأمر أهمية، فيعتقد تشالمرز أنه من الممكن تماما أن نكون موجودين بالفعل في محاكاة. "يمكن أن يكون العالم الذي نعيش فيه عالما افتراضيا. أنا لا أقول إنه كذلك. لكنه احتمال لا يمكننا استبعاده".
ويؤدي ذلك إلى السؤال عما إذا كان يمكن اعتبار الجماد والأشخاص في الواقع المحاكى حقيقيين. بالاعتماد على قرون من الفكر الفلسفي، يختصر تشالمرز النقاش إلى "قائمة تحقق من الواقع" من خمسة أسئلة. هل هو موجود حقا؟ هل له قوى سببية؟ هل هو مستقل عن عقولنا؟ هل هو كما يبدو؟ هل هو علامة X حقيقية؟ سيستغرق الأمر بضعة عقود أخرى لإنشاء نسخة طبق الأصل مخلصة تماما لعالمنا المادي عبر الإنترنت لكن عندما نفعل ذلك، فإن تشالمرز واضح بشأن الإجابات على هذه الأسئلة. ويكتب، "إذا كنا في محاكاة كاملة ودائمة، فإن الأشياء التي ندركها حقيقية وفقا لجميع هذه المعايير الخمسة".
حتى في عالم المحاكاة غير الكاملة، نواجه بالفعل بعض مشكلات الاختبار المتعلقة بالهوية والأمن. في 2012، أيدت المحكمة الهولندية العليا إدانة مراهق بسرقة أشياء من لاعب آخر في لعبة ران إسكيب على الإنترنت. وأفاد مركز مكافحة الكراهية الرقمية، أن التحرش والعنصرية والمواد الإباحية منتشرة بالفعل في الميتافيرس، ما يجعله غير آمن للأطفال. حيث تعرضت الصور الرمزية النسائية لبعض لاعبات ألعاب الواقع الافتراضي للإيذاء من قبل مشاركين ذوي نية سيئة، ويعرفون باسم "الحزينون".
يجادل تشالمرز بأن عالم "الميتافيرس" سيكون فظيعا ورائعا مثل الواقع المادي. لكنه يؤكد أيضا على احتمال أنه على المدى الطويل، عندما نقضي جميعا معظم حياتنا بشكل رقمي، فقد نشهد مستقبلا فضيلة ما بعد الندرة. في الواقع الافتراضي، يمكننا جميعا العيش في فيلات مطلة على البحر في كاليفورنيا لأن تكلفة البضائع الرقمية هامشية.
حتى لو اختفى كتاب "ريالتي+" في كثير من الحلقات الفلسفية المربكة أحيانا للقارئ العام، فهو كتاب ثري ومتألق وغريب في بعض الأحيان يعكس كثيرا من الجوانب الرائعة لعوالمنا الافتراضية. لكن ربما تكون أكثر الأفكار المقلقة التي يتحدث عنها تشالمرز هي ما قد يحدث إذا أدركنا جميعا يوما ما أننا نعيش بالفعل في محاكاة. من الممكن أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي القوية قد أنشأت بالفعل عديدا من عمليات المحاكاة لكوننا، التي تصل إلى نقاط التوقف الطبيعية. ويكتب، "ربما يدرس المحاكون ما نعرفه، وسينهون المحاكاة عندما ندرك أننا في محاكاة".
وسيكون الأمر فصلا ختاميا شاذا أن تنتهي المسيرة المهنية لفيلسوف بالدفاع عن نعيم الجهل.

الأكثر قراءة