عبر القارات بالقطارات

هناك تفاؤل متصاعد بين أوساط مختلفة من أن النقل عبر القطارات سيتسيد المشهد العام للشحن حول العالم. وهذا التفاؤل نابع في الواقع من ارتفاع وتيرة الشحن عبر السكك الحديدية في الفترة التي تشهد أزمة حقيقية في سلاسل التوريد. وهذه الأزمة صارت عنصرا مقلقا لكل الدول، التي تبحث عن تنشيط النمو والحراك الاقتصادي بكل أنواعه. واضطراب سلسال التوريد لم يؤد فقط إلى نقص في السلع الاستهلاكية التقليدية المعروفة بل شمل أيضا المواد الأولية المستخدمة في الصناعات، ما أثر بصورة خطيرة في كفاءة الإنتاج في كل الميادين تقريبا. كل هذا حدث بسبب التداعيات التي تركها وباء كورونا على الساحة العالمية، التي أنتجت بدورها أزمات اقتصادية هنا وهناك، بينما لا يزال العالم يتحرك بكل ما أوتي من قوة من أجل محاصرة الوباء ومتحوراته، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الجائحة على الأقل.
وسط هذه الأجواء شهدت حركة الشحن بالقطارات نشاطا كبيرا في العامين الماضيين، رغم أن السكك الحديدية تعرضت كغيرها من شبكات النقل للقيود التي فرضتها الحكومات على حركة السفر والنقل والشحن. والحق أن هذا الميدان شهد قفزات لافتة قبل تفشي وباء كورونا، دعمته الأجواء التي أوجدها مشروع طريق الحرير العملاق الذي تحاول الصين إحياؤه منذ عام 2013، بهدف إيصال منتجاتها واستيراد سلع عبر طريقين بري وبحري. وبصرف النظر عن الخلافات حول هذا المشروع خصوصا من جانب الولايات المتحدة، فإنه يمثل محورا مستقبليا جديدا لدول تقع في مساره، بما في ذلك التعهدات بإنشاء بنى تحتية بالتعاون مع 68 دولة. المشروع الذي اصطلح على تسميته بالحزام والطريق، دعمت تلقائيا حاضر ومستقبل النقل عموما عبر السكك الحديدية التي يصل طولها إلى 12 ألف كيلومتر.
وهذا ما عكس في الواقع الارتفاع الكبير في حركة الشحن عبر القطارات الذي بلغ في العام الماضي وفق المسؤولين الصينيين 82 في المائة، بواقع 1820 قطارا يوميا. وهذا العدد يعد كبيرا حقا. فمع تحرك الاقتصاد العالمي في العام الماضي نحو مستويات النمو المرتفعة، بعد عام من الانكماش المخيف صار الشحن عبر القطارات ضروريا، حتى إن كان لمسافات طويلة جدا. فالمسألة لا تتعلق فقط بأزمة سلاسل الإمداد، بل ترتبط أيضا بعاملين اثنين أيضا. الأول انخفاض تكاليف الشحن البري عموما مقارنة بالجوي، واختصار المدة الزمنية لإتمام التوريد مقارنة بالنقل البحري. فعلى سبيل المثال، الشحنة التي تستغرق 20 يوما من الصين إلى أوروبا لتسليمها، تتطلب 70 يوما عبر النقل البحري. فقبل خمسة أعوام كانت هناك ثمانية قطارات يوميا بين الصين والقارة الأوروبية، يوجد حاليا 1820 قطارا يوميا.
الأرقام التي يتم تداولها حاليا مثيرة. قطارات الشحن بين الصين وأوروبا حملت في أقل من عام 117 ألف حاوية معيارية مكافئة بحجم 20 قدما من البضائع. ومنذ أن بدأ العمل في هذه المسارات سجلت الرحلات بين النقطتين المشار إليهما 38 ألف رحلة، ونقلت 3.4 مليون حاوية، والبضائع التي تنقلها هذه القطارات تصل إلى 151 مدينة في 22 دولة أوروبية، مع شبكة لوجستية واسعة وقوية. ويبدو واضحا أن المسؤولين الأوروبيين يدفعون في اتجاه تعزيز هذا الحراك المتصاعد في ميدان الشحن رغم تحفظاتهم المتصاعدة أيضا على استراتيجية الصين السياسية في دول آسيوية خصوصا، تدخل ضمن نطاق طريق الحرير، بما في ذلك المخاوف من سيطرة بكين لاحقا على بعض هذه الدول عبر مشاريعها التنموية المختلفة فيها، المربوطة بالطبع بقروض ليست بريئة.
ورغم المؤشرات الواعدة للشحن عبر القطارات بين الصين وعدد كبير من الدول، إلا أن هناك مشكلات يصعب حلها. فارتفاع عدد رحلات الشحن هذه يسبب الاكتظاظ في دول العبور، الأمر الذي يطيل أمد الرحلات. هناك حدود وعمليات تفتيش مركزة عند حدود كل الدول خارج نطاق الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يجعل المدة أطول، بل يهدد بفساد أنواع من البضائع. وهنا تكمن مشكلة ستطول بالطبع إلا إذا تم التوصل إلى اتفاقات خاصة بالشحن عبر السكك الحديدية، وهذا أمر ليس مرجحا قريبا. وفي كل الأحوال، هذا الميدان ينمو سريعا، ويحتاج كغيره إلى قوانين مساندة تدعم مساراته. ولا شك أنه استفاد كثيرا من الارتباك الحاصل حاليا في سلاسل التوريد الذي من الواضح أنه سيستمر حتى منتصف العام الجاري على الأقل.
تبحث الشركات دائما عن الوسائل التي تورد فيها منتجاتها بأقل التكاليف الممكنة. ولا شك أن الشحن عبر القطارات أقل تكلفة عبر الجو، وأسرع من النقل البحري، إلا أن شبكات النقل الجوي والبحري تبقى الأقوى والأكثر انتشارا. ويتطلب الأمر أعواما عديدة كي يأخذ النقل على مسارات السكك الحديدية مكانا منافسا. وهذا القطاع المتصاعد لا يمكن أن يحقق قفزات نوعية كبيرة إلا عبر اتفاقات توفر له قوة دفع، مع شبكات عالية الجودة والأهم أن تتمتع بخدمات لوجستية جيدة ومرنة.

المزيد من الرأي