التساؤل .. ذخيرة الكائن الإنساني

التساؤل .. ذخيرة الكائن الإنساني
تعد الحكمة أعلى مراتب الإنسان الفيلسوف.

لا يستطيع الإنسان النجاة من "أسئلة الأطفال"، سواء تعلق الأمر بطرحها أيام الصبا، أو لزوم الجواب عنها في الكبر. لكن أقلية فقط تولي هذه الأسئلة الاهتمام اللازم والعناية المستحقة، فأسئلة الأطفال، في نظر الكبار، سطحية وبسيطة وساذجة، ويتلقاها الآباء والأمهات تارة بالدهشة والاستغراب، وتارة أخرى بالحرج والتحفظ. التحق بهذه الثلة أخيرا معاذ بني عامر، المبدع الأردني، بكتاب ممتع ومرح، حمل عنوان "الإنسان الفيلسوف: عن أسئلة الأطفال وإجابات الحكماء" (2021).
يقدم الكاتب، خلال فصول المؤلف الأربعة، مدارج تشكل "الإنسان الفيلسوف"، بداية بفصل "الطفل بما هو أقل من فيلسوف"، فـ"الإنسان الفيلسوف"، ثم "الفيلسوف"، وصولا إلى "الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف"، بأسلوب سلس وبسيط، يتمرد على قواعد المتن السقراطي، وتعقيدات الكتابة الفلسفية. في محاولة تصحيحية للصورة الشائعة بين العوام عن الفلسفة كطلاسم وسحر، وعن الفلاسفة كمجانين أو في طريقهم إلى الجنون.
يلفت ابن جبل عجلون الانتباه إلى فكرة "الطفل المتفلسف"، فأسئلة الأطفال التي نتلقاها عادة بالاستغراب أو الاستهجان، تعد بواكر الخطوات في رحلة التفلسف الإنساني، فالسؤال خطوة مهمة في رحلة البحث عن حقيقة الأشياء، وجوهرها العميق. صحيح أن الطفل حين يتساءل لا ينتج معرفة، لكنه يضع ما نعرفه قيد الانكشاف والمفاجأة. فهو لحظة يتساءل لا يعرف الضوابط الاجتماعية التي تحدد الصيغة المثلى لأسئلته التي يجب أن يسألها، وتلك التي يجب على لسانه وعقله الكف عن إثارتها.
يطرح الأطفال أسئلة جريئة، بمقدور المرء قضاء أعوام طويلة قصد الإجابة عن سؤال واحد فقط من تلك الأسئلة الجريئة. فسؤال واحد، يتبلور بطريقة فجائية تخلو من أي نية مضمرة للذهاب باتجاه إجابات بعينها، بمقدوره أن يقذف بالإنسان في مراجعة جذرية، لما يعتنق من أفكار. يرى الكاتب أن أسئلة الأطفال تمثل نوعا من الإهانة اللذيذة لتاريخ الوقار البروتوكولي الذي حظيت به الفلسفة، وخدشا في صورة نمطية سائدة مجتمعيا عن الفلسفة والفلاسفة.
لا تخرج أسئلة الأطفال عن مدار ثلاثية "الأشخاص والأفكار والأشياء"، ما يؤكد أن "الطفل حامل، منذ لحظة ولادته، صفات جينية تجعله يندمج في مشتركات مع بقية الجنس البشري.. الطفل هو ابن التساؤل بامتياز وجودي إزاء العالم والأحداث، لا يوجد حال ولا فعل دون أن يطرحه للاستفهام، ملحا على معرفته. فالطفل لا يملك من أدوات فكرية ولا معرفية سوى خاصية التساؤل المحير، وهذا فحواه أن التساؤلات بمنزلة ذخيرة الكائن الإنساني في مقتبل حياته وطوال مسيرتها. الطفولة هي عملية تحرر نحو الانفكاك من قيود الواقع وإكراهاته".
بعيدا عن سؤال: لماذا يسأل الأطفال أسئلتهم، وكيف تنشأ أسئلة الأطفال، يظل سؤال ما مصير هذه الأسئلة؟ محوريا في مسيرة بناء الإنسان الفيلسوف، من منظور الكاتب، فالطفل في اللحظة التي يسأل فيها سؤالا، ويجد له صدى إيجابيا لدى محيطه الأسري، يصير "أكثر من طفل على مستوى الوعي، وأقل من فيلسوف على مستوى الزمن". وحين حدوث العكس، أي مجابهة السؤال بالنهي والزجر، فهذا يعني "تحطيم مشروع إنسان متفلسف أو في طريقه إلى التفلسف المستقبلي، وإبقاءه ضمن دائرة الناس، كما تفرزهم مجتمعات هكذا، أناسا بسمات عقلية متشابهة إلى درجة انعدام أي إبداع".
يقر الكاتب بأن "الطفولة ليست مرحلة يلقيها الزمن في جرابه اليومي بلا عودة"، ما يجعل الإنسان طفلا متفلسفا، حتى وهو كبير في العمر. فقد يصير الإنسان فيلسوفا مهما كانت صفته الاعتبارية في هذه الحياة. لا بل إنه فيلسوف بالضرورة، طالما أنه يملك عقلا، وبمقدوره استخدامه في مادة العالم الذي يعيش فيه. بهذا الموقف يعلن الرجل انحيازه إلى التفلسف على حساب الفلسفة، لما لذلك من أهمية كبرى في تنشيط عقل الإنسان وجعله صاحب موقف من العالم الذي يعيش فيه.
كشف بنو عامر عن الفوارق بين الفلسفة والتفلسف، "لناحية أن الفلسفة تحضر الماضي العريق إلى عقل الإنسان، والتفلسف يحضر المستقبل المنشود في عقله. مع ما يستلزمه هذا الحضور والتحضير من تقديم للفاهمة بما هي إعمال للعقل في مادة العالم، وتأخير للذاكرة بما هي مراكمة للمعرفة داخل العقل".
ولادة "الإنسان الفيلسوف" مرهونة بمصير "الطفل المتفلسف" داخل مجتمع نشأته، وقد تحدث هذه الواقعة دون أن تقوى على البقاء، بفعل قوة وسيطرة الأسرة والمدرسة والمجتمع والسياسة والمعرفة.. يرى الكاتب أن "ولادة الإنسان ولادة معرفية، بما هي ولادة واعية في الزمن، لكي تعيد ضبط مورثاته التي توارثها في بيئته، ينبغي أن تسير في اتجاهين ليتحقق الإنسان في شرط كونه إنسانا متفلسفا".
يكون المرء فيلسوفا متى أراد حصر وظيفته الاعتبارية في فيلسوف يعيد تأويل العالم. أما التفلسف فيتعدى الفيلسوف وحده ليصبح حالة عابرة للإنسان أنى كان موقعه أو صفته الاعتبارية، علاوة على أن التفلسف مسار أفقي، ليس فيه أفضلية لأحد على أحد من ناحية قيمية، بل الكل يتمتع بالأهمية ذاتها، طالما أنه يؤدي دوره بإخلاص وإتقان. يختصر المؤلف فيقول: "التفلسف تكوين رؤى كبرى من تفاصيل صغرى، وتكوين رؤى كبرى عن تفاصيل صغرى".
تعد الحكمة أعلى مراتب الإنسان الفيلسوف، وتتجسد في أي إنسان يتفلسف، وتفضي فلسفته الحكيمة إلى الحق أو الخير أو الجمال. وليس شرطا في هذا التجسد أن يأخذ طابعا معرفيا، يتمظهر في نص ما، بل الأكثر حكمة أن يتجاوز ما هو معرفي إلى ما هو وجودي. ويبقى الفارق بين الحكيم والفيلسوف، أن هذا الأخير يسهب ويبسط ويشرح، لكي يوضح فكرته، فيما الأول يميل إلى الاختصار والاختزال، لذا تأتي حكمته على هيئة قصة أو شذرة أو موعظة.. وباعتبار المصدر تكون الأولى صادرة عن إنسان مشتغل بالمعرفة، أما الثانية فتصدر عن إنسان مشغول بالوجود.

الأكثر قراءة