ثقافة وفنون

سعيد بنكراد .. سيرة ذهنية حبلى بالحيرة والظنون

سعيد بنكراد .. سيرة ذهنية حبلى بالحيرة والظنون

سعيد بنكراد محتفى به في مناسبة سابقة.

سعيد بنكراد .. سيرة ذهنية حبلى بالحيرة والظنون

بعيدا عن السيمائيات التي نحت اسمه في رحابها عربيا، دخل سعيد بنكراد، المبدع والناقد المغربي، عوالم السيرة، بإصداره أواسط العام الجاري سيرة فكرية، بعنوان "وتحملني حيرتي وظنوني: سيرة التكوين" عن المركز الثقافي للكتاب. وكعادته حرص سعيد على تسجيل لمسته الخاصة في هذه المغامرة، فهذا النص - بحسب المؤلف - ليس سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما هو سيرة ذهنية، تقدم من الرؤى والأفكار أكثر مما تسرد الأحداث والوقائع.
يجد قارئ الكتاب نفسه أمام حالة من بوح فكري ممزوج بتفاصيل وأحداث، تضفي على النص طابعا فرجويا، لينجح سعيد بهذه الطريقة في تشخيص المعرفة، وتحويلها إلى فرجة. فقد عمد الرجل إلى استعادة صور من الماضي، ومعالجتها فكريا بصراحة وجرأة، قلما نصادفها في الكتابات العربية. لقد استعان الكاتب بهذه التقنية لمكاشفة القراء عن مساره البحثي والمعرفي في الأنفس والآفاق، وشخص الخبرة الإنسانية "الذاتية" في تفاصيل "فرجة حياتية"، قصد ضمان تعميمها على أوسع نطاق. نجح بنكراد في توظيف تقاطعات السيرة مع ما يبنى في الخيال، مؤكدا بذلك صدق مقولة الفرنسي بول ريكو: "إن الذات تتعرف على نفسها في القصة التي ترويها لنفسها عن نفسها"، فالحاكي في السيرة، وفي التجربة الواقعية على حد سواء، لا يأتي إلى الأشياء خالي الذهن أو بريئا من كل حكم مسبق. وهذا عين ما يحدث في "سيرة التكوين"، فالوقائع التاريخية لم تستطع الخلاص مما تنتجه الذاكرة على هامش ما يتطور خارج وعي الذات. اختار الكاتب بعناية المحطات "الطفولة والمدرسة، الجامعة والنضال، السجن والهجرة، الاغتراب والتدريس..."، التي كان لأحداثها بالغ التأثير في سيرته الفكرية، وأتقن لعبة السرد غاية الإتقان، بنجاحه في تصريف مسار طويل من العمر في قالب سيرة ذهنية، أثبت فيها أن الماضي لا يمضي إلا ليعود في شكل كتابة، باستحضار مسارات وسياقات متشابكة، لها منطق خاص في الذهاب والإياب بين الماضي والحاضر، في قالب جدلي مثير يشد القارئ إلى النص.
البداية بزمن الطفولة الأولى، في ريف مدينة بركان شرق المغرب، حيث التناغم والانسجام في الحياة اليومية البسيطة للفلاحين في القرى، ليحكي الكاتب صدفة التحاقه بالمدرسة، "لم يكن واردا في ذهن أمي والعائلة كلها أن أذهب إلى المدرسة، بعد أن توفي والدي. وحدث أنني كنت ألعب على جنبات الطريق الذي يمر بمحاذاة منزلنا، فمرت بي مجموعة من الأطفال بصحبة آبائهم، وسألت أحدهم عن وجهتهم، فأخبرني بأنهم ذاهبون إلى المدرسة، فانضممت إليهم، ووقفت وحدي في الطابور إلى أن وصل دوري، فسألني المكلف بالتسجيل عن والدي، فأخبرته بموته، وسألني عن اسمي واسم والدتي، ودون اسمي في السجل. وهكذا أصبحت تلميذا بالمصادفة وحدها". هذه المصادفة جعلت من سعيد قربانا رمزيا لحصة دراسية علمته معنى اليتم، فيحكي تفاصيل دقيقة عن حادثة "لماذا يبكي سعيد؟"، التي اختارها عنوان فصل في السيرة، "حدث مرة أخرى أن كان درس المحادثة هو اليتيم. لم أكن حينها أعير اهتماما لهذه الكلمة.. قدم المعلم تعريفا كما هي العادة: اليتيم هو من مات أبوه أو أمه. وبدأ التلاميذ يرددون التعريف في حماسة شديدة.. وفجأة انتبه المعلم إلي، ويبدو أنني كنت اليتيم الوحيد في القسم. فتوجه إلى التلاميذ قائلا: سعيد يتيم، لأنه فقد أباه. وانطلق التلاميذ من جديد يرددون اللازمة، واستمر الصراخ، فانفجرت باكيا. وما كان من المعلم إلا أن توجه إلى التلاميذ من جديد ليسألهم: لماذا يبكي سعيد؟ ثم يجيب عن سؤاله: سعيد يبكي لأنه يتيم. وانطلق التلاميذ من جديد يرددون فيما يشبه النشيد السؤال وجوابه، ولم يتوقفوا إلا مع نهاية الدرس، وكانت عيناي قد احمرتا من شدة البكاء. ورأيت الزهو في عيني المعلم، فالدرس كان ناجحا من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ويومها فقط أدركت معنى اليتم".
يترك بنكراد السارد مكانه للناقد الذي يبين أهمية اللغة في بناء التمثيل الرمزي لحقائق الوجود، فداخل اللغة تصنع الأفكار وتبنى المفاهيم، ولا شيء يفلت من قبضتها، فهي أساس الكينونة، وكل وجود خارجها يكون باهتا ودون أي معنى.
شكلت الجامعة محطة أخرى في سيرة الرجل، حيث التناقض بين أسئلة الواقع والمجتمع وأجوبة الجامعة، أجوبة تلقاها سعيد من نشاطه الطلابي في صفوف اليسار السري "منظمة 23 مارس" التي كانت في مواجهة مع النظام السياسي. "وكان النظام مستبدا، رغم كل المراجعات ومحاولات التجميل التي قام بها البعض، وحاول أن يوازي فيها بين أخطائنا وأخطائه. فنحن كنا عزلا، ولم نخطئ في حق الوطن، بطشوا بنا وعذبنا وهجرنا من وطننا، ومات بعض منا. ووجهنا بقوة لا قبل لنا بها، كانت تريد اقتلاعنا من الأرض التي ولدنا فيها، وإسكات كل الأصوات المناهضة أو المعارضة لسياسته".
لم يتردد الكاتب في توجيه سهام النقد إلى هذا الماضي، كاشفا الأعطاب التي رافقت التجربة، والبؤس الفكري الذي أحاط بها، وكأنه يحاول ترميم "صورة الماضي" في السيرة، دون أن يتنكر للماضي والتجربة رغم أخطائها، التي كانت تنطلق من القناعة المبدئية بالقيم الإنسانية.
عرج بنكراد في صفحات على واقعة اعتقاله في فاس، وتجربة السجن الانفرادي، وإعداد بحث التخرج في سلك الإجازة، عن الشاعر أحمد فؤاد نجم، داخل غياهب السجن. دون كثير استفاضة، حتى لا تطغى السيرة السياسية على السيرة الفكرية التي واصلها في باريس، حيث الأجواء الجامعية الساحرة في التأطير العلمي والتكوين النقدي، وكان لذلك بالغ الأثر في حياة بنكراد العلمية والفكرية وحتى الشخصية، ما دفعه إلى التمرد على الأوضاع داخل الجامعة المغربية، بعد التحاقه بها، وتلك محطة أخرى من محطات "سيرة التكوين".
يدرك الكاتب لا محالة صعوبة مغامرة السرد الذاتي التي يخوضها، ولا سيما أنه المثخن بجراح السيميائيات التي كانت حاضرة بقوة في ثنايا هذا النص، فيعترف قائلا: "ما كان يشدني إلى الوقائع التي أروي بعض تفاصيلها في هذا النص هو تلك السيرورة التي تحول من خلالها ما عشته حقا إلى تجربة جديدة تبنيها الكلمات وحدها. فوجودنا في اللغة كان دائما أوسع وأرحب من وجودنا في حقيقة الواقع، إنها إخراج لغوي لحياة تمت في غفلة منا. لقد حاولت من خلال ذلك الإمساك بخيوط شتى هي ما مكنني، من بناء قصة تتميز بالوحدة والانسجام". يخرج القارئ من سيرة بنكراد، عكس المألوف والمعتاد، بمتوالية من الأسئلة بدل الأجوبة، عن الغاية من السرد، أهو للمتعة والتسلية أم سبيل نحو بث الروح في ذاكرة مترعة بالآمال والخيبات، أليس السرد "حارس الزمن" بتعبير بول ريكور؟
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون