ثقافة وفنون

«موت طارئ» .. شاب هش أكثر مما يجب

«موت طارئ» .. شاب هش أكثر مما يجب

«موت طارئ» .. شاب هش أكثر مما يجب

عادل الدوسري.

في رواية مليئة بالأسئلة المؤرقة والمرهقة، يأخذنا الروائي عادل الدوسري، في عالم شاب كان فريسة الاكتئاب، يتناول الموت كقيمة للوجود الإنساني، والجوهر الحقيقي الذي تقوم بناء عليه كل غاياتنا، وتتصير إليه مآلاتنا الأخيرة.
"موت طارئ"، لا يقدم كاتبها تفكيكا للحياة وإجابات للأسئلة، إنما تفتح آفاقا لمزيد من فرضيات الإجابة المحتملة، عبر شاب كان هشا أكثر مما يجب، هشيما تذروه الرياح، محطما، اسمه عزيز، تنهشه الغيرة تارة والاكتئاب تارة أخرى، في عمل سردي يخبئ كثيرا من المعاني الدفينة بين سطوره.
الروائي يسأل نفسهيقول الروائي عادل الدوسري، متندرا عن "موت طارئ"، "إنها صدرت في يناير 2020، وكانت كأنها فأل سيئ لما تبعها من جائحة عالمية ألقت بتوابعها على الإنسان في كل مكان، بما في ذلك إلغاء وتأجيل معرض الرياض الدولي للكتاب".
وفي مناقشة للرواية بحضور "الاقتصادية"، أقامتها مبادرة "أصدقاء الثقافة" في الرياض، وأدارها سامي العريفي، يتساءل الكاتب عن ظروف كتابته روايته "ما الحياة، وما الموت؟ حين سألت نفسي هذا السؤال الذي أرهقني وأعياني، وجدت نفسي أكتب روايتي "موت طارئ"، وأحاول أن أجد مفهوما دالا لهذا السؤال وما بعد السؤال من أبعاد ناتجة عن معانيه وتفريعاته اللا نهائية وتنويعاته السرمدية، وغوره في أعماقنا، التي حددت بواعث الكتابة، التي على الأرجح كانت مزيجا بين ما هو عام وما هو خاص، وبين ما هو وجودي وما هو وجداني، لأن المعني هنا هو الإنسان، الإنسان بكل تعقيداته، بمعاركه، وأفكاره ومشاعره ومواقفه التي تعبر عن وجوده المادي في عالم تتجاذب أطرافه أساسا صراعات غير مادية.
ما كان يعيه عادل الدوسري عن الموت، وكل ما كان يشغله من الأفكار حوله قبل موت والدته شيء مختلف تماما عما صار يعيه بعد موتها، والمفارقة - حسبما يرى - أن "هذه الرواية كتبت الربع الأول منها حين كانت أمي في المستشفى، تحديدا في غيبوبتها الأخيرة، لا أعرف، ربما كنت مدفوعا بعاطفتي وخوفي من الفقد، لمحاولة تفسير هذا المجهول الذي أخافه، ربما كنت أرى أن حالة الغيبوبة أشبه ما تكون بالموت الطارئ، المفاجئ، أو فلنقل الموت غير الكامل، فقد كانت في غيبوبتها تمر في حالات من الاستفاقة، فتدعونا بأسمائنا وصفاتنا وتتحدث عن أمور من ماضيها، دون أن ينكشف لنا الرابط بين كل ما تحكيه، كان يبدو لي أنها ترى ما لا نراه، وتشعر بما لا نشعر به، وتتحدث مع من لا نسمعهم ولا نعي وجودهم، كان أمرا مربكا، وفي بعض الأحيان كان مريعا".
ويضيف "كنت في كل ليلة، بعد زيارتها، أعود إلى البيت وأبكي، أبكي فحسب، وحينما أهدأ قليلا، أجد نفسي أكتب ما أعيه من أفكار عن الموت، أواجه أسئلتي التي لطالما أقلقتني حول الوجود والعدم، بسرد أردت به أن أعري كل استفساراتي الغامضة، والنقاط المجهولة. ثم بعد أن ماتت مرت عدة أشهر قبل أن أكتب حرفا واحدا في الرواية، وحين عدت إلى الكتابة، كانت كل أفكاري في حالة من الاختلال وانعدام التوازن، لأن ما أعيه صار أكبر من كل تلك التصورات، والبناء الروائي المحتمل، كان في حاجة إلى ضبط الاعتلال والاختلال بين الأفكار، لكني لم أفعل أيا من هذا، لأن هذا ما أردت له أن يصل، أعني تلك الحالة المضطربة لشخصية عزيز، تلك الحالة من الارتباك الوجودي/ الوجداني، كانت الأسئلة تعذبه على نحو عميق، أما الإجابات، فلا إجابات".
شخصية مضطربة ومرتبكة
يعاني الاكتئاب والفراغ وتيه الشعور، هكذا هو عزيز، الذي يمضي متسائلا عن الحياة والموت، ما ترك في نفسه آثارا تجلت في العزلة والانطوائية، وخيبات متلاحقة، وهزائم لا نهائية، في حزن متسع الهوة بلا مدى.
الشخصية الرئيسة في الرواية "عزيز" شخصية مرتبكة وجوديا ووجدانيا، على حد تعبير عادل الدوسري، وبناء شخصية كهذه يحتمل جانبا عمليا يستمد من الواقع، وجانبا نظريا يعي اضطرابها سيكولوجيا، ما يعني حساسية تعاملها السوسيولوجي وتفاعلها مع وجودها، ومن ثم تفاعلها مع الآخرين، بسبب ما يوجد في داخله كإنسان منذ زمن بعيد.
هذه التركيبة الهشة لعزيز، يسندها عديد من الدوافع المتناقضة، إلى جانب وعيه الموت منذ وقت مبكر، من خلال صدمته بموت جدته، ثم وعيه الموت وهو شاب بالغ، من خلال وفاة قيثارة الشرق طلال مداح على الشاشات.
إذن، هو رجل شقي باكتئابه، وشقاء المكتئب يتلخص في عدم معرفته سر حزنه وفقدان دهشته، أما عزيز فكان يعرف جيدا ما السبب، ومعرفة السبب هو أول طرق العلاج النفسي في حالات الاكتئاب، لكن معرفته هنا كانت هي الشقاء بعينه، الذي يفسد كل أسباب التداوي، فقد عرف السر المقدس منذ سن مبكرة، ولم يعد لعقله تقبل العيش في التفاهات، وعرف أن الموت هو السر المقدس في هذه الحياة.
هل تهرب من الموت، أم تهرب إليه، هل تشعر بأنك ميت أم حي، ماذا تعرف عن الحياة؟ هذه الأسئلة التي أثارتها الرواية، ولم يتمكن عزيز من معرفة الحقيقة أبدا، بل لم يستطع أن يثبت وجوده المادي حتى، فشعر بأنه يتهاوى في حفرة عميقة ومظلمة وغائرة في سرمدية أبدية، بينما كان جسده يتآكل، والصدأ ينتشر في حواسه بطريقة مفرطة.
كالعائد من الموت، والباحث عبثا عن التوازن النفسي، يتصرف عزيز، كان يعيش في حزن لا ينتهي، وهي المرحلة الأولى في حياة المكتئب، ثم يتحول فيما بعد إلى حس ساخر متبلد، كمرحلة حزن أشد سوءا من سابقتها، ويعيش فيها المكتئب بطريقة آلية مقيتة، بلا رغبات ولا أمنيات ولا انفعالات أو تفاعلات.
صدمة الموت
تأثر عادل الدوسري بموت والدته كان واضحا في الرواية، فعزيز - شخصية الرواية الرئيسة ـ حينما توفيت جدته وهو طفل لم يبلغ الثامنة من عمره، عاش تجربة مريرة، ولا سيما أنها كانت له كأم، في ظل اضطرابات شخصية أمه الحقيقية واكتئابها، مشعلا الأسئلة في عقله الذي لم يخرج بعد من دائرة طفولته.
ماتت الجدة في الوريقات الأولى، فجاء على لسان عزيز "لم تكن امرأة عادية أبدا، كانت قوية الشخصية نافذة الكلمة، عميقة الإيمان، حكيمة العقل، لينة الجانب وطيبة المعشر، وكانت شاعرة أيضا، ويا للأسف لم يتبق من قصائدها إلا شيء يسير مما حفظناه في الصدور، كانت تخبرني بأن لكل قصيدة قصة، فهي لا تستند إلى خيالها ولا تعول عليه عندما تشرع في قصيدة جديدة، فكل أشعارها ارتجالية، ولدت في مواقف معينة".
فقد عزيز نفسه منذ اللحظة التي ماتت فيها جدته، خلع رداء الطفولة وكبر، جعله هذا الحدث يشيخ منذ سن مبكرة، يتخبط ويتيه في دوامة من التوقعات الخاطئة، وكان لهذه الصدمة دور في إخراجه من طور الحياة الطبيعية والزج به في عالم الأموات.
هذه الصدمة أعادت صياغة الحياة داخل عزيز، وبناء على ذلك تشكلت تصرفاته، سلوكه، وكان لبعض الحوادث والمواقف التي عاشها في مراهقته أثر ومنقلب سيئ عليه، حاول أن يبحث عن الإجابات في الكتب، لكنها في كل مرة كانت تعمق أسئلته، وتزيد من أوجاعه، وتجعله يبحث عن النوم الأبدي.
تأويلات جديدة
تأويلات جديدة يخرج بها عادل مبارك الدوسري كلما قرأ الرواية، وكأنه ليس بكاتبها، يفند أسبابها، ويبحث فيما وراء الكلمات والحروف، يفتش عن دوافعه ودوافع الشخصيات، ومع كل قراءة جديدة، ينفتح عقله على تأويل جديد، ربما لم يكن هو الدافع الرئيس والباعث على الكتابة وقتئذ.
في حديثه أمام القراء، يقول "لقد كانت تشغلني منذ زمن بعيد فكرة الصراع بين القوى، بمعنى أن الحياة قائمة على الأضداد، أي أن كل وجود ينتج ضده ويقوم بذاته بما هو ند لآخر، وطالما أن الأمر كذلك، فإن استمرار الصراع سيشكل ضرورة حتمية لاستمرار الوجود، وهذه الفكرة في حد ذاتها مقلقة، بائسة، مخيفة. من هنا فإن العالم الذي نعيش فيه صار شتاتا كئيبا بوصفه حلبة الصراع، ويتحتم علينا بعد الآن ألا نفكر في فهم الإنسان وقصة تطوره قبل أن نفهم تلك الأقطاب المتنازعة منذ الأزل".
ويتابع "لم يعد كافيا البتة أن نعرف الخير والشر، أو الوجود والعدم، أو اللذة والألم، أو الصدق والكذب، أو اليقين والشك، أو العقل والقلب، بل يجب أن نسأل أنفسنا دائما هذه الأسئلة: ما موقفنا من هذا الصراع، هل نثق بأننا ملتزمون بالحياد تماما، أم أننا نميل إلى قوة دون أخرى، ولماذا نميل إليها، وهل نستمر على موقفنا نفسه لو برزت قوة أخرى؟ وأظن أننا لا بد، شئنا أم أبينا، سنظل بوعي أو بلا وعي أحد أطراف هذه الصراعات، حتى إن ظننا أننا نقف موقف المتفرج، فلا أظن أن هناك مكانا للمتفرجين في هذه الحياة".
كيف يكون الموت طارئا؟ يجيب الدوسري "إن الموت يحدث لنا - وإن بشكل رمزي - آلاف المرات، والحياة كذلك، فمن يستطيع أن يجزم بأن هذا الحي حي، والموت كله في داخله؟ ومن يستطيع أن يجزم بأن هذا الميت ميت فيما الحياة كلها كانت في موته، نحن أمام إشكالية المعنى، إنها أزمة فهم لطبيعة الصراع ومضمونه وأقطابه وموقفنا منه، إذن، سندرك جميعا أن الحقائق نسبية، وأن الوجود والعدم نسبيان".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون