ثقافة وفنون

«الحياة رواية» .. والكتابة خشبة الخلاص

«الحياة رواية» .. والكتابة خشبة الخلاص

سمر معتوق مترجمة الرواية أتقنت نقل روح النص.

«الحياة رواية» .. والكتابة خشبة الخلاص

غيوم ميسو

"الحياة رواية". نعم إنها رواية يحيك تفاصيلها البطل، فتارة تكون واقعية وتارة أخرى تكون من الوهم، وما بين الواقع والوهم أقحمنا غيوم ميسو الكاتب الفرنسي في أحداث بوليسية ميكيافيلية مبهجة، لها طابع مختلف عما اعتدنا عليه في الروايات البوليسية السابقة.
يستهلها بفقرة يقول فيها "السبت 3 يونيو الساعة العاشرة والنصف صباحا.. توتر جنوني، أتهيأ للبدء في كتابة روايتي بعد ظهر اليوم، أستعد لذلك منذ أسبوعين".

لغز اختفاء البنت

يسرد في صفحته الأولى نبذة تعريفية عن شخصية فلورا كونواي الروائية الويلزية الفائزة بجائزة فرانز كافكا الأدبية، لينتقل بعدها إلى الفصل الأول، وهو فتاة المتاهة، لم يتأخر الكاتب في الحبكة التي تجذب القارئ من الفصل الأول، حيث استعرض لغزا محيرا عن كاري الطفلة البالغة من العمر ثلاثة أعوام، فقدت أو اختطفت من منزلها الكائن في الطابق السادس في مبنى لانكستر الضخم في نيويورك، بينما كانت تلعب "الغميضة" مع أمها فلورا، وأثناء اللعبة بينما كانت فلورا تغمض عينيها تختفي كاري، تقلب الأم الشقة رأسا على عقب من دون جدوى، ينتابها شعور سيئ مبهم يدفعها إلى الاتصال بالشرطة كسبا للوقت، بعد تأكدها من اختفاء ابنتها، كلغز عصي على التفسير.
وعلى الرغم من أنه لا دليل على الاختطاف، فإن الأرجح منطقيا بالنسبة إلى تحريات مارك روتيللي ورئيسته الملازم فرانسيس ريشارد أن كاري تبخرت، إذ لا يزال مفتاح الشقة في قفل الباب من الداخل، والنوافذ محكمة الإغلاق، ويصعب على طفلة الأعوام الثلاثة فتحها، حتى لو أرادت.

الكتابة خشبة الخلاص

صديقتها فانتين مساعدتها قالت لها في إحدى الليالي "أعمال مختلفة كتبت روائعها تحت وطأة الألم.. كتب هوجو "غدا عند الفجر" بعد وقت قليل من موت ابنته، وأبدعت دوراس رواية "الألم" من خلال مذكراتها التي صبغتها بسواد الحرب، وألف ستايرون "ظلام مرئي" بعدما سقط في قبضة الاكتئاب مدة خمسة أعوام"، وبهذا أرادت فانتين أن تقول لفلورا "إن الكتابة خشبة الخلاص".

شخصية ثانية

في الفصل الثاني ظهرت شخصية رومان أوزورسكي، الذي يكتب قصة فلورا، إلا أنه توقف فجأة، يقول "انطلقت من حالة بسيطة "اختفاء طفل" وظللت منفتحا على اقتراحات شخصياتي، والشخصيات ليست متشابهة".
يبدو رومان أوزوروسكي ميكيافيليا صارما في تلاعبه بالأحداث، لكن لا يلبث أن ينقلب السحر على الساحر، حين يتخبط رومان في علاقة زوجية يكتشف فيها مكائد زوجته ألمين عارضة الأزياء السابقة التي تحيك ضده مؤامرات خبيثة في سعيها للطلاق منه والاستيلاء على أمواله وانتزاع حضانة ابنه ثيو منه. يفقد معها رومان صوابه ويدخل في حالة من الهذيان حين تقرر زوجته أن تصطحب ابنه ثيو إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعيش في محمية بيئية بصحبة صديقتها.

كتب نهاية اللغز

لكن الحياة كانت أقوى من الخيال، والحبكة هنا جاءت سعيدة على عكس حبكة فلورا وكاري، هرب ثيو من والدته وقال للشرطة "إنه لم يعد يريد العيش مع والدته في الولايات المتحدة"، وقال "إنه يريد العودة للعيش مع والده في باريس". يقول أوزورسكي بمناسبة عودة ابنه "في مناسبات نادرة تكون الحياة أكثر إبداعا من الخيال، وعندما يحدث ذلك فتلك لحظات تحفر فينا إلى الأبد".
في هذا الفصل طلبت فلورا من أوزورسكي أن يعيد إليها كاري، فرفض وأكمل في أحداثه وأنهى حياة فلورا منتحرة، وفك لغز ابنتها، التي توفيت نتيجة سقوطها من الطابق السادس.

الوجه الثالث للمرأة

أما الفصل الثالث الذي عنونه بـ"الوجه الثالث للمرأة" فاستكمل الكاتب فيه قصته مع أبطاله، وأعطى الناشرة فالين دورا أساسيا، حيث كانت حبيبته قبل أن يولد ابنه، وفي الختام يقول أوزورسكي "في خضم عاصفة عاطفية وعائلية وبينما كان يكتب الفصول الأولى من روايته الجديدة، تقتحم إحدى بطلات الرواية حياته، فلورا كونواي، التي فقدت ابنتها قبل ستة أشهر، أدركت فلورا أن هناك من يتلاعب بخيوط وجودها، وأنها فريسة متلاعب كاتب يسحق قلبها وحياتها بلا رحمة، لهذا السبب تتمرد فلورا وتبدأ بينهما مواجهة خطرة، لكن من منهما الكاتب ومن الشخصية"؟
انتهت الرواية السبت 10 يونيو التاسعة والنصف صباحا، وها هو الكاتب يعود إلى الحياة.

عبارات من فلاسفة

في الفصول الثلاثة للرواية ومتفرعاتها الـ15 المقسمة على 238 صفحة، يبدأ الكاتب بحكمة أو عبارة تحاكي واقع الرواية، فنقل عن جوان ديدون قوله "لأكثر من سبب الكتابة هي الفعل المتمثل في قول الأنا، بالسيطرة على الآخر، بمخاطبته: استمع لي، انظر إلى الأشياء بعيني، غير رأيك، إنها فعل تهجمي، لا بل عدواني"، وعن سيجموند فرويد قال "الحياة، هذا العبء الثقيل المفروض علينا، تجلب لنا جما من المعاناة، وخيبات الأمل، ومشكلات لا حل لها، كي نتحملها لا يسعنا الاستغناء عن المهدئات"، وعن ويليام شكسبير قال "الحب الذي يطاردنا هو أحيانا مصدر قلقنا مع ذلك نشكره دوما لأنه حب"، جميع هذه العبارات تعطي زخما أدبيا للرواية.

شبيهاتها في الأدب

لا شك أن هذه الرواية تشبه إلى حد كبير الروايات البوليسية التي اشتهر بها عديد من الروائيين أمثال إدجار آلان بو، ولا سيما في روايته البوليسية الأشهر في العالم "جرائم شارع مورج"، التي جعلت منه رائد الأدب البوليسي على مستوى العالم، كذلك موريس لوبلان صاحب سلسلة "آرسين لوبين: اللص الظريف"؟ أو ما أتحفتنا به أجاثا كريستي برواياتها البوليسية، أهمها "مقتل روجر أكرويد"، وتميزت بغزارة إنتاجها؟ إضافة إلى روايات أخرى لا تقل شأنا، برع فيها سير آرثر كونان دويل الروائي والطبيب الاسكتلندي، بابتكاره شخصية "شرلوك هولمز" المحقق الاستشاري للشرطة، التي تستعين به عندما تعجز عن فك لغز جريمة "تبدو كاملة"، لكن رواية غيوم ميسو جاءت مختلفة في سردها وأدبيتها.

إبداع في الترجمة

أما الترجمة فقد كانت مميزة، لطالما تذمرت في عديد من المرات من الروايات المترجمة، لأنها تفقد أدبيتها، إلا أن سمر معتوق مترجمة الرواية أتقنت نقل روح النص، فهي تغيب خلف جمله ومفرداته الأنيقة، على الرغم من الحبكة البوليسية التي ترتكز على التشويق، التي قد تفقد اللغة بريقها الأدبي، إلا أن معتوق أبدعت في استعمال المفردات أو تركيب الجمل والفقرات، حتى ليظن القراء أن رواية "الحياة رواية" كتبت باللغة العربية، وليست رواية مترجمة.

من غيوم ميسو؟

هو كاتب وروائي فرنسي برتبة عالمية، يعشق الأدب والمسرح منذ نعومة أظافره، تحتل كتاباته قوائم أكثر الكتب مبيعا في فرنسا والعالم، وقد بلغ ذروة نجاحاته برواية "وبعد"، فاكتسب شهرة كبيرة، ولا سيما أنها حولت إلى فيلم حقق نجاحا كبيرا في دور السينما. في رصيده أكثر من عشر روايات، ترجم معظمها إلى 40 لغة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون