الشعر بعدك مستحيل .. هكذا بكى العرب شريكة الحياة

الشعر بعدك مستحيل .. هكذا بكى العرب شريكة الحياة
"فقدتك يا إلفي وكنا كأنما.. عرفتك مذ خلقي ‏ومن قبل نخلق".
الشعر بعدك مستحيل .. هكذا بكى العرب شريكة الحياة

لحظات مريرة عاشها الشعراء والأدباء في رثاء رفيقة الدرب، شريكة الحياة، التي ساندتهم في أحلك المواقف، ورحلت في فجيعة، ‏خلدتها القصائد والنصوص النثرية في خزائن التاريخ.‏
في جولة "الاقتصادية" على ما كتبوه نثرا وشعرا في زوجاتهم، برز في فن الرثاء مجموعة من الشعراء، منهم نزار قباني الدبلوماسي ‏والشاعر الراحل، الذي رثى زوجته، ووالده، وابنه، وعددا من الشخصيات المشهورة، مثل طه ‏حسين عميد الأدب العربي، فقال في رثائه "ارم نظارتيك ما أنت أعمى.. إنما نحن جوقة العميان".‏

نقش على قبورهن

نزار أجاد الرثاء، ونقل حزنه ومشاعره إلى الأوراق، فلمس القارئ ما يعانيه من ألم وحسرة، ولا سيما حينما قتلت زوجته العراقية ‏بلقيس الراوي 1981 في انفجار السفارة العراقية في بيروت، لم يتزوج بعدها، وترك رحيلها أثرا عميقا داخله لا ينسى.‏
‏"شكرا لكم.. شكرا لكم.. فحبيبتي قتلت.. وقصيدتي اغتيلت.. وهل من أمة في ‏الأرض.. - إلا نحن - نغتال القصيدة؟"، بهذه الكلمات رثى بلقيس، وكتب أيضا "بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل، ‏بلقيس كانت أطول النخلات في أرض العراق، كانت إذا تمشي.. ترافقها طواويس.. وتتبعها أيائل".‏
نقش نزار على قبرها "بلقيس.. يا عطرا بذاكرتي، يا زوجتي.. وحبيبتي.. وقصيدتي، نامي بحفظ الله... أيتها الجميلة، فالشعر ‏بعدك مستحيل، والأنوثة مستحيلة".‏
ومن قباني إلى الماغوط، الذي فقد شقيقته ثم والده ثم زوجته في عام واحد، يقول عن زوجته "إنه التقاها في بيت الشاعر أدونيس، ‏فارتبط بها حتى توفيت في الثمانينيات"، وثق تلك التفاصيل الحزينة بقوله "حين كانت مريضة، جلست بقربها وهي على فراش ‏الموت، كنت أقبل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، فقالت لي عبارة لن أنساها (أنت أنبل إنسان في العالم)"، وأوصته قبل موتها ‏بدقائق بعدم الزواج من بعدها، وأن يكرس الباقي من عمره لتربية ابنتيهما شام وسلافة، ففعل ذلك بكل إخلاص وتفان.‏
من أقسى ما كتب في رثاء الزوجات كان ما كتبه الماغوط لسنية، حين قال "ثلاثين سنة وأنت تحملينني على ظهرك كالجندي ‏الجريح.. وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك"، وكتب على شاهد قبرها "هنا ترقد آخر طفلة في التاريخ، الشاعرة ‏الغالية.. سنية صالح".‏

دموع لا تجف

الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، الذي أحيا ذكراه معرض الرياض الدولي للكتاب، رثى زوجته السابقة مناهل بقصيدة ‏‏"ناجيت قبرك" الشهيرة، قال فيها "في ذمة الله ما ألقى وما أجد، أهذه صخرة أم هذه كبد، قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا، فكيف ‏بمن أحبابه فقدوا؟".‏
ولشدة الحزن على رفيقة الدرب، تنقل مقالات وكتب عن كريم ثابت الكاتب الصحافي، الذي رثى زوجته بمقال "امرأة فاضلة: إلى ‏زوجتي"، وبعدها ارتدى الحداد عليها 30 عاما، دون أن يبدله، ويقال "إن ثابت كان يرتدي سترة وربطة عنق سوداء دائما"، وفاء ‏لزوجته التي أنجبت له ثلاثة أبناء.‏
ولا ينسى متذوقو الأدب والشعر رثاء مريد البرغوثي لرضوى عاشور، كتب لها في حياتها وبعد الرحيل، قال لها "أنت جميلة ‏كوطن محرر، وأنا متعب كوطن محتل"، كتب "يا رضوى.. إني والقمر والنجمات نسير إليك الليلة"، وكذلك "أنت حنونة كالرذاذ.. ‏وأنا أحتاجك لأنمو".‏
قال في أمسية تأبين لزوجته الأديبة "من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحبوب"، وقال بصوته الذي يغلبه الألم ‏والمرارة "الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر، صمت يجوب المكان لا شيء يعلو فوق صوت الحبيب، لست ‏أنت المهم اليوم ولا أنا أيها الحزن، أنا منشغل بها لا بك أنت، بسعيها العسير للنصر في مواجهات زمانها".‏

أجرأ الراثين

جرير في العصر الأموي كان أجرأ من رثى زوجته، سباقا متجاوزا الأعراف والتقاليد، جمع بين رثاء زوجته وهجاء أعدائه في ‏‏24 بيتا، قال فيها "لولا الحياء لعادني استعبار.. ولزرت قبرك والحبيب يزار".‏
ولعل تلك القصيدة تخبرنا عن ندرة رثاء الزوجات في ذلك الوقت، وإن تم ذلك فعلى استحياء، فلم يكن رثاء الزوجة معهودا، بل ‏من المحظورات الشعرية، حتى إن الفرزدق عير جريرا برثاء زوجته، وقال له "إن الزيارة في الحياة ولا أرى.. ميتا إذا دخل ‏القبور يزار، ورثيتها وفضحتها في قبرها.. ما مثل ذلك تفعل الأخيار".‏
أما الطغرائي، الذي عاش في بغداد قبل نحو ألف عام، فنظم نحو خمس قصائد في رثاء زوجته، لشدة ما يعانيه من حرقة وألم على ‏فراقها، ومما كتبه "إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ، فلها تجرعت غير الصابر والصبر، وإن نظرت من الدنيا إلى حسن، منذ ‏غبت عني فلا متعت بالنظر".‏
وقصيدة موجعة تلك التي نظمها محمود سامي البارودي الشاعر المصري الراحل، من أطول قصائد رثاء الزوجة في الشعر ‏العربي، في 67 بيتا، نقل تواطؤ الأحزان عليها وثقلها على نفسه، جاء فيها "قد كدت أقضي حسرة لو لم أكن.. متوقعا لقياك يوم ‏معادي".‏

أصدق الحزن

لم يكن في السابق من السهل أن يرثي الشاعر زوجته، لاعتبارات عدة، لكن الأدب العربي شهد في المقابل إصدار شعراء دواوين ‏مستقلة لرثاء الزوجة، مثل ديوان (أنات حائرة) لعزيز أباظة الشاعر المصري، الأول في هذا المجال، وديوانه الوحيد الذي قدم له ‏طه حسين، وأتى بعد نحو عام من وفاة زوجته، وهي ابنه عمه التي أنجبت له ابنا وبنتين، وتوفيت بمرض أصاب أيضا إخوتها ‏الأربعة، ويروي في كتابه اللحظات الأخيرة لها، حينما أسندت هامتها على صدره وودعته الوداع الأبدي، يقول في وصفه:‏
‏"دفعت صدرها إلي وألقت.. رأسها عند راعد ذي خفوق، ثم قالت في أنة تتهاوى: أزفت ساعة الفراق السحيق، لا ترع واحمل ‏الفجيعة جلدا.. لست للضعف عندها بخليق".‏
أحدث الديوان ردود فعل إيجابية، منها رد المؤرخ عبدالرحمن الرافعي حينذاك "هذا النوع من الأدب يبدو لي جديدا في الشعر ‏العربي حقا، إن له شبيها من شعر الخنساء في رثائها لأخيها صخر، لكني أظن أن الشعر العربي ليس فيه كثير من رثاء الشاعر ‏لزوجته، ولست أدري ما السبب في هذه الندرة".‏
ومثله فعل الشاعر عبدالرحمن صدقي في ديوانه "من وحي المرأة"، الذي تصدرته مقدمة لعباس محمود العقاد، ويصور لحظات ‏الأسى، فكتب باكيا "أقمت لك الأشعار نصبا ومن يكن.. كمثلك علما فهو بالشعر أخلق، فقدتك يا إلفي وكنا كأنما.. عرفتك مذ خلقي ‏ومن قبل نخلق".‏
ومن اللافت أن عزيز أباظة الذي سبقه بديوان الرثاء، بعث برسالة إليه، قال فيها "ما أظنها قصائد بالمعنى المفهوم، لكنها دموع ‏العين والقلب معا، في أصدق تعبير وأشرفه، لكنها الحشاشة الذائبة، والنفس المنصهرة تترقرق في أنصع الشعر وأسماه".‏

الأكثر قراءة