غسان الخنيزي .. مسافر ينقل «أوهامه الصغيرة» شعرا

غسان الخنيزي .. مسافر ينقل «أوهامه الصغيرة» شعرا
غسان الخنيزي
غسان الخنيزي .. مسافر ينقل «أوهامه الصغيرة» شعرا
شاعر القضايا الصغيرة.
غسان الخنيزي .. مسافر ينقل «أوهامه الصغيرة» شعرا
من ترجمات الخنيزي.

ما بين القطيف وبغداد، تفتقت موهبة غسان الخنيزي الشعرية، السعودي الذي سافر بشعره إلى أعماق الآخر، واختارته جائزة "سركون بولص" الرفيعة لتتوج صوته القوي، والمعنى العميق في كلماته المختزلة، رغم قلة أعماله المنشورة ترجمة وشعرا.
في مسيرته الشعرية، وعبر مجموعتين، اختار الخنيزي أن ينقل "أوهام صغيرة" إلى ساحة الشعر في 1995، أتبعها بـ"اختبار الحاسة" 2015، عابرا بقصائده ونصوصه إلى نافذة الشعر الحديث مرة، ومرة كـ"محتال" كما يصفه جمهور ذواقة القصيدة، بعد أن سرب أبيات الشعر الأجنبية وترجمها إلى العربية بلغة واضحة وشاعرية.

عبر بقصيده القارات

"أنا صندوق يكتظ بالأوهام، وحيد كمعبر بين أشجار ذاوية".. هكذا تحدث الخنيزي في مجموعته الشعرية الأولى عن نفسه، فمن خلال قصائده النثرية هنا، والمترجمة في أنحاء متفرقة، نقل أصدق الانفعالات والمشاعر والأحاسيس، متوخيا أدق العبارة وأقربها توصيفا للمشهد ككل.
الخنيزي من مواليد 1960، في واحة القطيف وحضارتها الضاربة في القدم، أقام في مسيرته في عراق السلام، وكذلك الولايات المتحدة، ولا يمكن أن نصنفه بشاعر الثمانينيات أو التسعينيات، فقد حمل من كل تجربة مزاياها، وسافر بالقصيد إلى الصحف السعودية، ثم تجاوزها إلى الصحافة العربية والعالمية، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية، الإسبانية، الفرنسية، الإيطالية، وحتى الهندية.
يقف في نصوصه ناثرا مفرداته "باقة الورد التي ما نظرت إليها إلا لمحا.. كفى بها، لتمنح الليل كل البهاء، وكل الحنين"، وهذا ما تمنحه نصوص الخنيزي من بهاء للمشهد الشعري، فبخلاف المجموعتين الشعريتين، ومختارات من قصائده مترجمة إلى الفرنسية في كتاب، أبدع الخنيزي في نقل الشعر إلى لغة الضاد، ولا سيما كتابه المعروف "جون آشبري: صورة ذاتية في مرآة محدبة وقصائد أخرى"، مترجما أحد أهم المجموعات الشعرية الأمريكية المنشورة خلال الـ50 عاما الماضية، إلى جانب مختارات شعرية اختارها وترجمها وقدم لها في 2019، كما ترجم كتاب "إنقاذ القطة" لبليك سنايدر كاتب السيناريو الأمريكي، ومشاركات شعرية عابرة للقارات.

المحتال مسربا المعنى

ليس من السهولة أن تحمل اسم جائزة باسم الشاعر العراقي الكبير سركون بولص، الراحل في أكتوبر من 2007، وواحدا من الأصوات القوية في الشعرية العربية الحديثة، وتخلد هذه الجائزة ذكراه، وتمنح لشاعر مجدد أو شاعرة، وتتولى دار الجمل تغطية الجائزة وإدارتها، وسبق الشاعر السعودي الفائز ثلاث دورات منحت لشعراء ثلاثة، ففي دورتها الأولى 2018 منحت لمبارك وساط الشاعر والمترجم المغربي، ثم آدم فتحي الشاعر والمترجم التونسي في دورتها الثانية 2019، وإلى عماد أبو صالح الشاعر المصري في دورتها الثالثة 2020.
اعترفت الجائزة في بيانها بأن الخنيزي مقل في شعره، يحتال على مهمة المترجم لكي يسرب لنا الأصل بلغة عربية واضحة، فأجادت وصفه حينما قالت "غسان الخنيزي شاعر مقل، نعرف هذا من أعماله المنشورة شعرا وترجمة، على الأقل، فهو لم ينشر حتى الآن إلا مجموعتين شعريتين في فترتين متباعدتين، وبعد ترجمات شعرية متفرقة، لم نعرف له إلا مختاراته الشعرية المترجمة لجون آشبري الشاعر الأمريكي".
فالشعر - حسب الخنيزي - "فعالية يمكنها أن تتسامى فوق صعوبة العالم وتدفع بنا خلل هذه الصعوبة وفوقها"، وكما وصفته الجائزة الأدبية: هو شاعر القضايا الصغيرة، تفاصيل العالم الجواني، جالس على الحافة، يشده الابتهال، وربما أمكننا أن نقول، إن القصيدة - حسبه - هي ابتهال أو اعتراف، ولكأننا به يتقمص صوت وروح الناعي القديم الذي يطوف الأنحاء، لكنه هنا، هو الناعي الهامس، الذي يهجس محدثا نفسه ومشيرا بيديه، متلمسا المعاش بحنو رائع.. فهو مثلما يكتب، يتلقط القصائد التي يترجمها وكأنه يصف نفسه، محاولا أن يجعلنا نسمع الأصل حينما نقرأ الترجمة، إنه يحتال على مهمة المترجم لكي يسرب لنا الأصل بلغة عربية واضحة.

أجدى من الصمت

أهدى غسان التكريم الأخير إلى الأديب لقمان سليم، وكتب في تغريدة له عقب الإعلان عن منحه الجائزة "فرح وممتن لمانحي جائزة سركون بولص للشعر وترجمته، لاقتراحهم بأن هنالك سيرة إبداعية ما في السياق الممتد بين مجموعتين من قصائد النثر نشرتهما يفصل بينهما عقدان من الزمن، وكتاب شعري ترجمته إلى العربية، سياق يتخلله حضور متفاوت النشاط من جانبي في الترجمة والكتابة.. أهدي هذا التكريم إلى لقمان سليم، الصديق الحي الحاضر بيننا دائما، الأديب واللغوي والناشر الرؤيوي، الذي توسم شيئا ما فيما أكتب منذ البداية، ومنحاني هو وشريكته في دار الجديد رشا الأمير، الأديبة والروائية، نافذة عالية المطل في مشهد الشعر الحديث".
وأضاف "واستعادة لما أقول لنفسي، أمام أي احتفاء أو تلميح بأن ما كتبته كان أجدى من الصمت: فما نحن بصدده اليوم، ليس إنجازا أحتكر ادعاءه. بل هو في نتاج إيمان الصديقين، عبدالله السفر الشاعر والناقد، وأحمد الملا الشاعر والرائد الثقافي: تشجيعهما لي، وثقتهما بجدارة الأمر وجديته".

الجسد والروح

في "اختبار الحاسة أو مجمل السرد" يبدو غسان الخنيزي وكأنه يخير القارئ في العنوان الذي يرتاح له ويراه معبرا عن مجمل النصوص، وكتب على غلافه الأخير بما يحث ذواق الشعر على قراءته "الجسد صبي والروح صبية.. الجسد رجل والروح امرأة.. يبدآن توأمين ويكبران طفلين يأخذان في التشكل رجلا وامرأة، كلا على حدة. لكنهما لا ينفصمان".
يقف بنا الشاعر في كتابه الممتع على معنى الشعر، فيقول في أحد نصوصه "الشعر كلام قليل، يكون لك متى استيقظت من غفوتك، أيها الشفاف في المنام، المعتم في اليقظة"، ثم يتبع ذلك الوصف "هو كلام قليل يقال في الترحاب، الذي تقوله أيها الناطق، للجموع الآتية من تاريخ مخيلتك، للجماهير التي تحيا في الكذب الأبيض، الذي توارثته من سلالتك".
نقتبس من لغته الفضفاضة "النظر إليك كالنظر إلى الحياة نائمة، حين كانت الحياة النائمة طفلة، والمهد سباتها العميق"، وفي أوهامه الصغيرة التي تراود الموهوم في الحمى، النصف الآخر من مجموعة الخنيزي الشعرية، يتبدى للقارئ موهبة الشاعر واختزاله المعنى في كلمات بسيطة، فمن خلال عناوين النصوص يثبت ذلك بتفرد، من خلال عناوين: زراعة في الوقت، أرض تنعم بعشب عال، مراودات، عودة إلى المنابع، مديح الشقائق، أماكن توزع غواياتها، أوهام صغيرة، مقهى، حيث القاهرة بالقرب، الآخر في سباته، وروح شاردة، ونصوص لا تتشابه إلا في قوة الكلمة وتأثيرها في وجدان الآخر.

الأكثر قراءة