ثقافة وفنون

حسن حنفي .. المفكر الثائر

حسن حنفي .. المفكر الثائر

الراحل حسن حنفي

حسن حنفي .. المفكر الثائر

غادرنا في 21 تشرين الأول (أكتوبر) مفكر مصري من طينة خاصة، أقام صرح مشروع فكري، قوامه أطروحة متفردة عن "التراث والتجديد"، في رحلة عمر استمرت لأزيد من ستة عقود، طاف فيها العالم شرقا وغربا، فدرس في مصر وفرنسا، ودرَّس في أمريكا واليابان وألمانيا والمغرب والجزائر وتونس.. ما أتاح له فرصة صقل خلاصاته الفلسفية، وتهذيب مخرجاتها كي تتناسب مع مسائل ومشكلات الإنسان العربي.
شق الراحل حسن حنفي مسارا بحثيا استثنائيا، جعله صاحب مشروع متفرد، ميزه عن بقية المشاريع النقدية والتنويرية للمفكرين العرب خلال القرن الماضي، فقد شكلت أطروحته علامة مفارقة في المشهد الفكري العربي، ولا سيما أنه ابتعد عن السجال مع أقرانه، باستثناء مناقشته مع المفكر محمد عابد الجابري في سلسلة "حوارات المشرق والمغرب"، وكان ثمن ذلك بقاء مشروع من العيار الثقيل مغمورا في الهامش، لم يجذب سوى اهتمام الأقلية من الباحثين عربيا وعالميا.
توارى الرجل عن الأضواء، وانتصر لإيمانه المطلق بالمعرفة سبيلا وحيدا أمام الشعوب والأمم للنهضة والتغيير، فانطلق في رحلته البحثية مع التراث، لإقامة مشروع متكامل الأركان يبحث في كيفيات إعادة بناء التراث الإسلامي القديم، وإمكانية الاستفادة من الفكر الغربي فيما يغيب عنا، وكيف يمكن توظيف كل هذا وإسقاطه على واقعنا المعاصر، سعيا وراء تأسيس إطار علمي ناظم لحلول أزمات الواقع العربي المعاصر.
يعترف حنفي - في معرض التأسيس النظري لمشروعه - بأن "المعركة الحقيقية الآن هي معركة فكرية وحضارية، ولا تقل أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة، إن لم تكن أساسها، وأن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية، كما أنها هزيمة عسكرية، وأن الخطر الداهم الآن ليس فقط هو ضياع الأرض، بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد".
لذلك تعدى مشروعه معالجة مناهج البحث في التراث العربي الإسلامي، نحو التعاطي مع التراث في كليته، بوصفه لا يزال متفاعلا مع الواقع، ويؤثر نفسيا في الأفراد والجماعات، ما أفرز ثلاث جبهات بحثية، تؤطر - بحسب حنفي - "جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدد"، وهكذا اهتمت الأولى بالموقف من التراث القديم، حيث تضع الأنا في مواجهة تاريخها الماضي وموروثها الثقافي، فيما انشغلت الثانية بالموقف من التراث الغربي، لتضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر، بينما تولت الثالثة والأخيرة الموقف من الواقع، بوضع الأنا في خضم واقعها المباشر.
يرفض الراحل أي تعاط مع التراث دون هذه الجبهات الثلاث المتداخلة، "فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادرا على الدخول في تحديات العصر الرئيسة، يساعد على وقف التغريب، الذي وقعت فيه الخاصة، وهي لا تعلم من التراث إلا التراث المضاد لمصالح الأمة، الذي أفرزته فرق السلطان، فلم تجد حلا إلا في التراث الغربي.. ولما كانت التحديات العصرية هي الواقع المباشر الذي يعاد فيه بناء التراثين معا القديم والغربي، فإن أخذ موقف نقدي منهما، يساعد على إبراز الواقع ذاته، وفرض متطلباته على قراءة التراثين معا".
تتنازع مسألة التراث والتجديد ثلاثة حلول، في رأي حنفي، أولها الداعي إلى الاكتفاء الذاتي بالتراث، وهو - بحسبه - ظاهرة اجتماعية أكثر منها فكرية، ترتبط بفئة تدافع عن مصالحها ومكاسبها ومناصبها، عبر المزايدة بالدين، وتستخدمه للفرار من معارك العصر. يقابله حل الاكتفاء الذاتي بالتجديد، فالتراث القديم بلا قيمة في ذاته، ولا يحتوي أي عنصر للتقدم، وهو جزء من تاريخ التخلف، يبقى الارتباط به نوعا من الاغتراب. موقف صحيح مبدئيا وخطأ واقعيا - بحسب حنفي، لأن أصحابه يبنون فوق جدران متهدمة، ولا يبذلون جهدا قصد رفع الأنقاض لتشييد بناء جديد، ويتناسون أن الشعوب لا تتغير في لحظة. أما الحل الثالث فتوفيقي بين التراث والتجديد، ويعمل على الأخذ من القديم بما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد إلى مقياس القديم، لتكون النتيجة - في نظره - محاولة تلفيقية تغلب الطابع الانتقائي.
يحاول الراحل في مشروعه حول التراث والتجديد، مقاومة آفات العرب الثلاث، التقليد للقدماء، والتبعية للغرب، والعزلة عن الواقع، وكأنه يجيب، على سبيل التلميح لا التصريح، عن المشاريع الفكرية المتداولة عربيا حول المسألة التراثية "الجابري، العروي، تيزني، جعيط، شحرور، أبو زيد...". ويرجح أن تكون ضخامة المشروع "14عنوانا"، عاملا جوهريا في تجاهل الأطروحة المؤسسة لمسار ومسيرة الرجل.
اشتهر حسن حنفي عربيا وإسلاميا بكونه منظر منظري تيار "علم الاستغراب"، ورائد أطروحة "اليسار الإسلامي". وفجر استخدامه المصطلح، لأول مرة، جدلا واسعا في الوطن العربي، فقد جمع طرفين متعارضين وغير قابلين للدمج، فاليسار ارتبط بالحركة الشيوعية، بينما هيمن تنظيم الإخوان على مصطلح "الإسلامي". واشتدت المعارك بين التيارين، لدرجة كان معها مجرد التفكير في وضعهما ضمن سياق واحد أو رؤية فكرية مشتركة غير وارد، حتى أقدم عليه حنفي وآخرون.
تباينت المواقف حول مشروع الرجل، فهو يساري في نظر الإسلاميين، وإسلامي في نظر اليساريين، كما قال ذات مرة، ما جعل الفصيلين ينفران منه، إذ لم يحاول أحد الاقتراب منه، وقراءة أفكاره ونقدها. وزادت حدة مواقفه السياسية الثورية، في تغييب مشروع الرجل عربيا. فمثلا كانت جرأته في محاضرة عن "نظام الحكم في الإسلام" سببا في طرده من المغرب، بعدما أسندت إليه 1982 مهمة تدريس الفلسفة في جامعة العاصمة العلمية فاس.
مهما يكن الموقف من مشروع حسن حنفي الضخم، وأيا يكن تقدير المرء لأطروحة الراحل، بتفاصيلها الجزئية ومحاورها الفرعية، وحتى استنتاجاتها العلمية والتطبيقية، يجد نفسه إلى جانب الرجل في الموقف الأخلاقي، فبعدما كان من مؤيدي الثورة الإيرانية 1979، وأحد المعجبين بالحدث، وبزعيمها روح الله الخميني، ما دفعه إلى زيارة طهران أكثر من مرة، انقلب ضد سياستها التخريبية في دول المنطقة، وعارض ما تصنعه في العباد والبلاد العربية. وأكد ذلك غير ما مرة بقوله، "ثم خاصمتها تأييدا لشعب العراق وسورية واليمن، وأرفض الذهاب إليهم، وإلى احتفالاتهم".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون