التقلص المذهل للاقتصاد

التقلص المذهل للاقتصاد

ربما تعتبر خسارة عقد واحد سوء حظ، إلا أن خسارة عقدين قد تدل على الإهمال. فقد دخل اقتصاد اليابان في حالة ركود في التسعينيات بعد انفجار فقاعتي سوق الأوراق المالية والعقارات، إلا أن أداء الاقتصاد أخيرا يبدو أكثر إثارة للقلق. فقد انخفض إنتاجها الصناعي بنسبة 38 في المائة خلال العام حتى شباط (فبراير)، ليصل إلى أدنى مستوياته منذ عام 1983. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي بلغ 12 في المائة في الربع الأخير من عام 2008، وربما انخفض بوتيرة أسرع خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام. وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي لليابان بنسبة 6.6 في المائة عام 2009 بشكل عام، مما سيقضي على جميع المكاسب التي تم تحقيقها خلال السنوات الخمس الأخيرة من الانتعاش.
وإذا تبينت صحة ذلك، سيكون اقتصاد اليابان قد نما بمعدل 0.6 في المائة سنويا منذ أن تعثر عام 1991. وبسبب الانكماش أيضا، ربما تكون قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالقيمة الاسمية في الربع الأول من هذا العام قد انخفضت إلى نفس نسبتها لعام 1993. وفي الواقع، لم يحقق الاقتصاد أي تقدم خلال الـ 16 عاما الماضية.
هل كان انتعاش اليابان الذي كان يبدو قويا في الأعوام 2003-2007 مجرد وهم؟ ولماذا ضربت الأزمة العالمية اليابان بصورة أشد من غيرها من الاقتصادات الغنية؟ تقول الحكمة الشعبية إن اليابان تعتمد بصورة كبيرة على الصادرات، إلا أن الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك. فحصة الصادرات في الناتج المحلي الإجمالي لليابان أصغر بكثير من ألمانيا أو الصين، وكانت حتى أخيرا مساوية للحصة في أمريكا. وخلال السنوات العشر حتى عام 2001، لم يسهم صافي الصادرات في نمو الناتج المحلي الإجمالي لليابان. ثم زادت الصادرات، من 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 17 في المائة العام الماضي. وإذا تم شمل الإنفاق الرأسمالي للمصدرين، يسهم صافي الصادرات بنسبة النصف تقريبا من نمو الناتج المحلي الإجمالي الكلي في اليابان خلال السنوات الخمس حتى عام 2007.
وانتعشت الصادرات بسبب الين الرخيص جدا والشراهة الاستهلاكية في أمريكا. ولم تكن في اليابان فقاعة إسكان أو فقاعة ائتمان، إلا أن الين المقدر بأقل من قيمته شجع على تكون فقاعة من نوع مختلف. فقد وسع المصدرون
اليابانيون سعتهم اعتقادا منهم أن الين سيظل منخفضا وأن الطلب العالمي سيظل قويا، مما أدى إلى سوء توزيع الموارد بصورة هائلة.
ومع انهيار الطلب الأجنبي وارتفاع الين العام الماضي، انفجرت "فقاعة" الصادرات في اليابان. وانخفض إجمالي الصادرات بنسبة تقارب النصف خلال العام الماضي. وكانت منتجات اليابان ذات القيمة العالية، مثل السيارات والإلكترونيات الاستهلاكية، من أول المنتجات التي توقف الناس عن شرائها حين انكمش الاقتصاد.
ويقول Richard Jerram، وهو اقتصادي في Macquarie Securities، إن الأسوأ قد ينتهي قريبا بالنسبة للإنتاج الصناعي. وفي هذا العام، انخفض الناتج والصادرات بنسبة أكبر بكثير من انخفاض الطلب، لأن الشركات أغلقت مصانعها مؤقتا من أجل تخفيض المخزونات الزائدة. فعلى سبيل المثال، كان إنتاج السيارات في اليابان خلال الشهرين الأولين من عام 2009 أقل بنسبة 50 في المائة عنه قبل عام، إلا أن مبيعات السيارات العالمية انخفضت بنسبة 25 في المائة فقط.
ويعتقد Jerram أن استنفاد المخزون على وشك الانتهاء، مما سيؤدي إلى زيادة قصيرة الأجل في الناتج حين يتم فتح المصانع ثانية. وإذا حدث هذا، قد يكون إنتاج السيارات في حزيران (يونيو) أعلى بنسبة 50 في المائة عنه في آذار (مارس) (ولكن سيظل أقل بنسبة 25 في المائة عنه قبل عام). وهذا يعني أن نمو الناتج المحلي الإجمالي قد يصبح إيجابيا في الربع الثاني حتى لو ظل الطلب الأجنبي ضعيفا.

ولسوء الحظ، من المرجح أن يترنح الاقتصاد مرة أخرى لأن التأثيرات الجانبية لانخفاض الأرباح وارتفاع معدل البطالة تؤثر سلبا في الاستثمار والإنفاق الاستهلاكي. ووفقا لأحدث مسح Tankan من بنك اليابان، كانت المواقف من الأعمال بين شركات التصنيع الكبيرة هي الأكثر تشاؤما منذ بدء الاستطلاع عام 1974. وتقول شركات التصنيع إنها تخطط تخفيض الاستثمار بنسبة 20 في المائة هذا العام. وبدأت كذلك بتقليل الوظائف والأجور. ويقلل معدل البطالة الذي يبدو متواضعا والبالغ 4.4 في المائة في شباط (فبراير) من حجم الألم. وقد انخفضت نسبة عروض العمل إلى طلبات العمل إلى 0.59 فقط من نحو 1 عند بداية عام 2008، وانخفض أيضا متوسط ساعات العمل بصورة حادة. وانخفض متوسط الأجور (بما في ذلك العلاوات وأجور العمل الإضافي) بنسبة 2.7 في المائة خلال الـ 12 شهرا حتى شباط (فبراير). وانخفض إنفاق الأسر بنسبة 3.5 في المائة بالقيمة الحقيقية خلال الفترة نفسها؛ وانخفضت مبيعات المتاجر بنسبة 11.5 في المائة.
وقد دفع ضعف الاقتصاد المحلي الحكومة إلى تشغيل المضخات المالية. فهناك حوافز بنسبة 1.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في طور الإعداد لعام 2009، ويتوقع أن يتم كشف النقاب عن دفعة أخرى قد تبلغ 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في منتصف نيسان (أبريل). ومن المحتمل أن تشمل الرزمة إجراءات لتقوية شبكة الأمان للعاطلين عن العمل، وبالتالي تهدئة المخاوف المتعلقة بالأمن الوظيفي. وسيكون هناك إنفاق جديد على البنية التحتية. ويعتبر جزء كبير من الإنفاق على الأشغال العام في التسعينيات مبذرا، لذا سيتم التركيز هذه المرة على المشاريع التي تعزز الإنتاجية، مثل توسيع مطار Haneda في طوكيو. ومن المرجح كذلك ألا تثير إجراءات الحوافز التي تم وضعها بصورة مدروسة والتي تزيد النمو على المدى الطويل خوف أسواق السندات القلقة بشأن الديون الهائلة للحكومة.
وطالما لن يتم تأخير الإجراءات الإضافية بسبب إجراء انتخابات مبكرة التي يجب الدعوة إليها في أيلول (سبتمبر)، قد تكون مجموع الحوافز المالية لليابان في عام 2009 الأكبر من بين اقتصادات مجموعة السبع. ولكنها لن تكون كافية لمنع حدوث اتساع كبير في فجوة الناتج (الفرق بين الناتج المحلي الإجمالي الفعلي وما قد ينتجه الاقتصاد بكامل طاقته). وقد ارتفعت بالفعل إلى 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير من عام 2008، ومن المحتمل أن تقترب من نسبة 10 في المائة بحلول نهاية عام 2009، أي ضعف النسبة في انكماش التسعينيات.
وتفرض الفجوة الاقتصادية المتسعة ضغوطا تنازلية مرة أخرى على الأسعار. وبحلول نهاية الصيف، قد تكون الأسعار الاستهلاكية أقل بنسبة تزيد على 2 في المائة عنها قبل عام- انخفاض أسرع من الانخفاض في نوبة الانكماش السابقة في اليابان. ويكمن الخطر في أن يقلل الانكماش الأرباح وبالتالي الوظائف، مما سيخفض الطلب والأسعار بصورة أكبر. وقد خفض بنك اليابان أسعار الفائدة إلى 0.1 في المائة في كانون الأول (ديسمبر) وأدخل عدة تدابير للحفاظ على تدفق الائتمان، مثل شراء الأوراق التجارية وسندات الشركات، بالإضافة إلى الأسهم التي تحتفظ بها البنوك، مما يزيد من نسب رؤوس أموالها. وخلافا لفترة التسعينيات، لا يزال الإقراض المصرفي في ازدياد.
علاوة على ذلك، كثّف بنك اليابان عمليات شراء سندات الحكومة، ولكن بعد تجربته في الأعوام 2001-2006، لا يزال البنك متشككا من أن مثل هذا "التسهيل الكمي" سيرفع التوقعات التضخمية ويحفز الطلب. ولكن أحد الاختلافات الرئيسية هو أن الفترة السابقة التي حدث فيها تسهيل كمي تزامنت مع تشديد الميزانية بصورة صارمة تحت رئاسة جونيشيرو كويزمي، رئيس الوزراء في ذلك الوقت. وتم تخفيض عجز الميزانية من 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 إلى 1.4 في المائة عام 2006 (مما يفسر جزئيا سبب ضعف الطلب المحلي). ومن المفترض أن تكون تركيبة التوسع المالي وشراء سندات الحكومة من قبل بنك اليابان أكثر نجاحا.
وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تبلغ نسبة ديون القطاع العام 200 في المائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي عام 2010، وبالتالي سيكون مجال تقديم المزيد من الحوافز المالية محدودا. كما لا تستطيع اليابان الاعتماد على الصادرات لتحقيق النمو المستقبلي؛ وبقدر ما تمتعت بفقاعة صادرات، إلا أن الطلب الأجنبي لن يعود إلى مستوياته السابقة. فاليابان بحاجة إلى تحفيز الإنفاق المحلي.
وأحد الخيارات المحتملة التي تدرسها الحكومة هو إطلاق الأصول المالية الواسعة للمسنين. فالأسر اليابانية تخبئ مدخرات أكثر بخمسة أضعاف من الدخل المتاح، وهي النسبة الأعلى بين اقتصادات مجموعة السبع، ويتم الاحتفاظ بثلاثة أخماسه من قبل أشخاص تجاوزوا الـ 60 من العمر. ويتم فرض ضريبة على هدايا الأطفال مثل الدخل العادي، ولكن إذا تم تقليل هذه الضريبة، قد تعزز الحوالات المتزايدة الاستهلاك واستثمار الإسكان بما أن صغار السن يميلون بصورة أكبر بكثير للاستهلاك. ومن الناحية النظرية، قد يعطي هذا دفعة أكبر بكثير للاقتصاد من أي حوافز مالية محتملة.
وبالطبع، فإن أحد أسباب حرص المسنين على متابعة أصولهم هو قلقهم من نظام المعاشات التقاعدية سيئ الإدارة والرعاية التمريضية في المستقبل. ولا بد أن الخدمات المقدمة للمسنين هي من بين أسرع الصناعات نموا في اليابان وتسهم في إيجاد الكثير من الوظائف الجديدة، ولكنها مقيدة بالقوانين التي تحد من المنافسة والعرض. ولن يساعد تحرير الخدمات فقط على تحسين معايير المعيشة للسكان المسنين، بل قد يخرج الاقتصاد أيضا من الركود العميق عن طريق المساعدة على إطلاق المدخرات.
ويحمل العقد الضائع الثاني لليابان دروسا مقلقة بالنسبة للاقتصادات الغنية الأخرى. فقد نجحت حوافزها المالية الضخمة في منع الركود في التسعينيات بعد انفجار فقاعتها- ولا شك أن الآخرين محقون في اتباعها اليوم. إلا أن فشل اليابان في التشجيع على انتعاش محلي قوي بعد عقد من ذلك يوحي بأنه قد تكون أمام أمريكا وأوروبا أيضا رحلة طويلة وشاقة.

الأكثر قراءة