الهيمنة الأمريكية أو الشراكة!

منذ أوائل القرن الماضي والولايات المتحدة تملك قدرات اقتصادية صناعية خارقة أهلتها لكي تهيمن على مسارات التدفقات التجارية والاقتصادية في معظم بلاد العالم، حتى في ظل أتون الحرب الباردة، حيث شكل مشروع مارشال تجذيرا لهذه الهيمنة الاقتصادية، خصوصا في أوروبا الغربية بعد وهدة الكساد الكبير في 1929 ونهاية الحرب العالمية الثانية وآليات الخروج منه في معاهدة بريتن وودز.
ومثلما ملكت الولايات المتحدة الأمريكية إمكانات هائلة في الثروات الطبيعية والصناعية والمنتجات الفنية والثقافية والاستهلاكية العديدة.. ملكت إلى جانب ذلك مرونة في التسويق وفي المبادلات التجارية بحكم اقتصادها الحر وسرعة الارتباط بالدول والشركات في مختلف بقاع العالم دون تعقيدات كانت من سمات المعسكر الشرقي حتى أصبح التدفق النقدي للعملة الأمريكية هو السائد المسيطر على معظم صفقات التجارة العالمية من أمريكا إلى الخارج ومن دولة لأخرى أيضا. ما جعل من الدولار سيدا كونيا لا منافس له في العملات على الإطلاق.
هذا التفوق الدولاري هو ما أغرى أمريكا بالتخلي عن الذهب وفك الارتباط به وتعويم الدولار في فجر السبعينيات من القرن الماضي، الأمر الذي جعل للدولار الصولة والجولة في الميدان وحده وجعل المؤسسات الأمريكية والعالمية أسيرة نفوذه فبات هو الهدف والغاية، من أجله ولأجله بدأ التخفف من كثير من الشروط الرقابية على التعاملات المصرفية، ما قاد إلى فقاعة الأسهم ثم العقار، فالتهاوي في أحضان الكارثة المالية الراهنة.
الصرخات التي قابل بها العالم المتقدم هذه الأزمة كلها أشارت بأصابع الاتهام إلى النظام المالي الأمريكي والتعويل على السياسة النقدية وربط العالم بالدولار. وترك السوق لحال سبيله، وقد بدا واضحا من خلال المعالجات التي قامت بها أوروبا والصين ودول أخرى نامية الميل إلى الإفلات من هيمنة الدولار والوصفة الأمريكية لقيادة اقتصاد العالم.. والملامح التي حملها البيان الختامي لقمة دول العشرين تؤكد أن أمريكا اضطرت بفعل ضغط تلك السيناريوهات المقترحة للخروج من الأزمة إلى التنازل عن فكرة الهيمنة إلى الشراكة على لسان رئيسها باراك في كلمته في المؤتمر، ما يعني السير خطوات لملاقاة الرؤى المغايرة الأخرى على الطريق بناء على صيغة توافق على آليات ليست هي بالأمريكية الخالصة ولا بالأوروبية أو الصينية أو النامية الخالصة أيضا، وإنما هي مزيج من هذا الدواء أو ذاك.
فعلت أمريكا ذلك مضطرة لأن تعافيها من أزمتها مرتبط بعلاقاتها التجارية مع العالم, خصوصا الصين التي تعد أكبر مشتر لسنداتها ودائن لها، وفعلته بحكم أن أوروبا الموحدة باتت كتلة اقتصادية مؤثرة تتحرك كلاعب واحد قوي، وفعلته كذلك بحكم دول نامية كالهند والسعودية تمثل الأولى تسارعا في التنمية فيما تمثل الأخرى قوة اقتصادية تختزن أكبر احتياطي من الطاقة العالمية.
على أن ما قاد إلى تنازل الهيمنة الأمريكية عن عرشها ما زال في إطاره النظري ولم تعبر عنه سوى الكلمات المعلقة على كتف المستقبل.. والمحك على انتهاء عصر الهيمنة الاقتصادية الأمريكية وبزوغ عصر الشراكة ستبديه الأشهر المقبلة، حين تأخذ توصيات البيان الختامي لمؤتمر قمة الدول العشرين طريقها إلى الترجمة العملية، وتعطي دلائل على حدوث تناغم وتماثل وتنسيق في إدارة السياسات المالية والنقدية وسبل دعمها ورقابتها وكيفية ضمان ذلك كله.
والواقع، أنه يتعين على الذين ينظرون إلى جنوح أمريكا إلى الشراكة بدل الهيمنة باعتبار ذلك مناورة للالتفاف على هيمنة صينية مقبلة أن يتريثوا في الحكم على رهانهم هذا في انتظار نوع سلوك الولايات المتحدة بعد قمة العشرين في غضون السنة أو السنتين القادمتين، أما أولئك الذين يعتبرون أن إفلات الهيمنة من الولايات المتحدة الأمريكية قد بات إفلاتا موضوعيا وليس مناورة أو تكتيكا وأنه فعلا لم يعد بإمكان أمريكا كبح تراجع هيمنتها فهم يعتمدون صيرورة التاريخ وتحولات القوة بين الأمم وأن دوام الحال من المحال.. وبين الاتجاهين في الرأي يظل قادم الأيام في جعبته فصل الخطاب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي