ثقافة وفنون

طعام المستقبل .. تغييرات جذرية في الثقافة الغذائية

طعام المستقبل .. تغييرات جذرية في الثقافة الغذائية

قطاع الثروة الحيوانية وحده مسؤول عن 18 في المائة من غازات الاحتباس الحراري.

يتوقع بحلول منتصف القرن الحالي أن يقترب سكان كوكب الأرض من عشرة مليارات نسمة، نعم بعد أقل من 30 عاما فقط، ما يعني مزيدا من الاختلال في التوازن الغذائي، المختل أصلا، فحاليا يعاني أكثر من مليار شخص نقصا في التغذية، مقابل معاناة نحو مليار ونصف شخص زيادة الوزن، جراء التغذية. بذلك يكون 2,5 مليار فرد، في هذا العالم، في مشكلة بسبب التغذية.
يحول ما سبق التساؤل بشأن مستقبل الغذاء إلى كابوس حقيقي، يقض مضجع الباحثين والخبراء وصناع القرار على الصعيد العالمي. إذا كان الخلل بهذا المستوى، عند عتبة سبعة مليارات نسمة، فكيف سيكون واقع الحال عام 2050؟ بعبارة أخرى، نقول هل ستظل الإمكانات الغذائية في المناطق الزراعية كافية حينها، علما بأن مجال الزراعة يمثل الآن زهاء 1٫5 مليار هكتار من الأراضي؟
تذهب توقعات العلماء إلى أن إطعام سكان الأرض، بعد ثلاثة عقود، يفرض ارتفاعا في إنتاج الغذاء بنسبة 70 في المائة. زيادة تواجه بمحدودية الموارد الطبيعية "الماء والحيوانات..." والأراضي الزراعية، وترافقها مشكلة تلويث البيئة، نتيجة الإفراط في استعمال الأسمدة الصناعية والمواد الكيماوية ومحسنات الجودة، إضافة إلى التأثير المباشر لعملية الإنتاج في التغييرات المناخية.
تفيد الإحصائيات، الصندوق العالمي للطبيعة، بأن النظام الغذائي مسؤول عن 1/4 انبعاث الغازات الدفيئة العالمية، ونحو 70 في المائة من ضياع التنوع البيولوجي. فقطاع الثروة الحيوانية وحده مسؤول عن 18 في المائة من غازات الاحتباس الحراري التي تنبعث كل عام، في الوقت الذي تتلاشي فيه الغابات في منطقة الأمازون بسبب الرعي. وتعد الزراعة في الولايات المتحدة الأمريكية من القطاعات المساهمة في الاحتباس الحراري، بسبب الغازات الدفيئة المنبعثة من تربية الحيوانات وتسميد الحقول ونقل الأعلاف...، حتى قيل إن "قطعة اللحم أصبحت اليوم من مسببات الاحتباس الحراري".
هذه المعطيات حتمت التفكير خارج الصندوق، بحثا عن حلول مبتكرة لمشكلة الغذاء في المستقبل، لو أرادت البشرية بقاء الحياة على الأرض. في هذا السياق، تعالت الأصوات المطالبة بتغييرات جذرية في السياسة الغذائية، بعد دخول المعطى المناخي على الخط. فظهرت آراء تدعو إلى إنشاء نظام مراقبة، حيث يخضع ما يؤكل وما يهدر من أغذية لمراقبة دقيقة. وترافع آخرون عن مراجعة جذرية لمفهوم "جودة الأغذية" القائم حاليا، الذي يعتمد على مصدر المنتوج الجغرافي وطريقة إنتاجه، مؤكدين أن الأمر سيصير من قصص التاريخ قريبا. وترافع فريق ثالث من أجل توفير أطعمة لا تعتمد في إنتاجها على الأرض أو الشمس، باعتباره الحل الأمثل لمعضلة التغذية مستقبلا.
يدافع هؤلاء عن وجاهة طرحهم بأكثر من سند، فهو أولا فعال في التقليل من الاحتباس الحراري، وبالتالي التصدي لمسألة التغيرات المناخية. ويعد ثانيا بتحقيق العدالة الغذائية، بجعل الطعام في متناول الأغنياء والفقراء بأثمنة مناسبة، ما يعني القضاء على جانب من مشكلة التغذية في العالم "المجاعات". ويتوقع أن يكون الغداء صحيا، ليحل الجزء الآخر من المشكلة "السمنة"، فالدمج المفترض بين ابتكارات التكنولوجيا وتطوير التغذية يقودنا إلى نظام غذائي فعال، لدرجة الحديث عن قدرة الطبيب على نصحك بما عليك تناوله بدقة، يناسبك وحدك دون الآخرين. وقيل أيضا هذه الدقة عامل من شأنه إطالة عمر الإنسان، إذ يعتقد أن متناول هذه الأطعمة سيعيش لما فوق مائة عام كمتوسط، بحلول نهاية هذا القرن.
هذا ليس ضربا من الخيال، فثمة اتجاه عالمي برز أخيرا لدى الشركات العالمية المصنعة للطعام، مفاده الاهتمام بالأكل الصحي، بعد تزايد الطلب عليه بكثرة من لدن الشباب المرتبطين بعالم الإنترنت، حتى إن هناك من يتكلم عن صيحة "السوبر أطعمة"، ولا سيما أنها تأخذ في الحسبان في تركيبتها تقلبات فصول العام الأربعة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ ظهرت قبل ثلاثة أعوام شركات "التغذية الشخصية"، بعلامات تجارية معروفة WW، LC...، تقدم أنظمة غذائية لزبائنها، بناء على الحمض النووي لكل فرد على حدة.
هكذا إذن سيشكل العامل الإيكولوجي محددا جوهريا، بشأن ما سيقدم من أطباق ومشروبات، على موائد النصف الثاني من القرن الحالي. فالبشرية على موعد في المقبل من الأعوام مع تغيير جذري للثقافة الغذائية، حتى تتطابق مع متطلبات المستقبل. لكن إطلالة سريعة على قائمة الأشياء المرشحة لتشكل تلك المأكولات، قد تثير اشمئزاز كثيرين، وربما حتى غثيان البعض.
تسارع المختبرات الزمن نحو إنتاج شرائح لحمية اصطناعية، أكثر صحة واستدامة، تصبح بديلا عن لحوم اليوم. وقد صار الأمر قاب قوسين أو أدنى من التحقق، بعد الإعلان عن نجاح تجارب في إنتاج لحوم مستزرعة في المعامل، يتم الحصول عليها من عينة من الأنسجة الحيوانية، ويسمح لها بالتكاثر في بيئة بيولوجية متحكم فيها، بطريقة مماثلة للتكاثر في جسم الحيوان، دون أي تعديل جيني، حتى تحافظ اللحوم المنتجة على جودتها.
من جهتها، لا تتردد منظمة الصحة العالمية في المطالبة بتربية الحشرات من أجل حماية البيئة، وتقديمها بديلا عن البروتين الحيواني. نعم، يشهد العالم تبلور اتجاه عالمي يدافع عن فكرة استعمال "الحشرات في أغذية المستقبل". فقد درج الكلام عن "الثروة الحيوانية الصغيرة" التي ستصبح مكونا رئيسا في وجبات الأفراد. ربما يكون ذلك الدافع وراء إقدام الحكومة الهولندية على إعداد تشريع ينظم عمل مزارع الحشرات.
توالي الأبحاث المخبرية المجمع على أن القيمة الغذائية للحشرات تعادل ما توفره اللحوم، دون أن يكلف إنتاجها ما ترفضه تربية المواشي. إلى جانب التأكيد على التنوع الذي يطبع المجال، فهناك أزيد من 1400 نوع من الحشرات تصلح طعاما للإنسان. دون أن ننسى أن قطاعا كبيرا من سكان العالم يأكلون الحشرات كجزء معتاد من وجباتهم الغذائية، ويشيع تناول اليسروع والجراد في إفريقيا، بينما تعد الدبابير وجبة شهية في اليابان، ويتناول التايلانديون الصراصير.
طعام المستقبل لن يكون لاحما فقط، بل ستحضر فيه النباتات أيضا. ويتوقع أن تمثل خضراوات البحر العمود الفقري لذلك، فالطحالب عنصر أساس في هذا الطعام، لكونها تنمو بشكل سريع، ولا تحتاج إلى مساحة كبيرة على غرار المحاصيل الزراعية العادية. كما أنها لا تحتاج إلى سقاية، ولا تستهلك المياه العذبة، وتمتص ثاني أكسيد الكربون والفسفور، ما سيساعد على حل مشكلة الاحتباس الحراري. وتفيد التوقعات بأن زراعة الطحالب، قد تصبح أضخم صناعة لإنتاج المحاصيل في العالم.
كثر الكلام في "طعام المستقبل" وعنه، ومدى ارتباطه بالأزمات الإيكولوجية، ما يوجب التدخل عاجلا لحل المشكلة قبل الوصول إلى خط اللا عودة. لكن الاستعجال الذي يرافق كل نقاش بشأن الموضوع يجدد معه الحديث عن مشكلة "السيادة الغذائية"، وتلك معضلة أخرى، ليس هذا مقام التفصيل فيها.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون