ثقافة وفنون

حكاية صناعة العلم .. أول دروس المواطنة

حكاية صناعة العلم .. أول دروس المواطنة

اختارت دول "تزيين" أعلامها بشعارات أو رموز ثرية ومثيرة إلى جانب الألوان.

حكاية صناعة العلم .. أول دروس المواطنة

وراء كل علم قصة، عادة ما تبقى خارج المفكر فيه لدى أهل البلد.

ترفع الأعلام عاليا في الاحتفالات الوطنية والاحتجاجات الجماهيرية أو لحظة اشتداد وطيس المباريات الرياضية أو عند التضامن مع هذه الدولة أو تلك، بمشاركتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانا استبدال الصورة الشخصية لصاحب الحساب بوضع علم الدولة المعنية بالحملة، للدلالة على مشاركته في التضامن والمساندة. وتحضر قطعة القماش هذه، ذات الألوان والأحجام والأشكال المختلفة، حسب كل دولة، في مناسبات أخرى حاملة معها رمزية خاصة، تمزج التاريخ بالثقافة لصناعة هوية وطنية أو انتماء مشترك.
علم الدولة ليس مجرد ألوان أو رموز أو شعارات يتم اختيارها اعتباطيا، قصد ضمان الانفراد والتميز عن بقية الشعوب، إنما واجهة للدلالة على أمة أو قومية أو عرقية.. استطاعت الصمود، في معركة الصراع من أجل البقاء. فجاءت فكرة العلم لتجسيد قليل من عبق الماضي وكثير من أماني وأحلام المستقبل، على قطعة مستطيلة أو مربعة الشكل، تتوارث جيلا بعد جيل.
تاريخيا، يصعب الحسم بأول ظهور لفكرة العلم، لكثرة استخداماته بعيدا عن الحمولة السياسية الهوياتية التي اكتسبها مع مرور الوقت. فاستعملت الرايات أول الأمر كأداة بداية لإشارة، بغرض التنسيق العسكري بين الفيالق في ميادين القتال، وفي عالم البحر بغية التواصل بين السفن في البحر، وأضحت مع تقدم الملاحة شرطا قانونيا للإبحار. وهناك من يرى أن التأريخ الحقيقي للرايات بدأ مع مرحلة الرموز، حين كانت الفيالق العسكرية تضع رمزا "نسر، تنين..." على عصا أثناء المعركة، ثم تحولت فكرة الرمز إلى بيارق، أعلام بالمفهوم الحالي، لها ألوان خاصة بكل فصيل.
وتنسب رواية أصول الفكرة إلى حضارة الصين القديمة، وسندها في ذلك أن مؤسس مملكة "تشو" في الصين 1122-256 قبل الميلاد، كان أول من وضع راية بيضاء أمامه لتمييز مملكته، ومع توالي الأعوام وضع حكام هذه السلالة قواعد خاصة بالعلم، فرضت على الجميع التقيد بها، ومن غريب ما جاء فيها أن لمس حامل العلم الملكي يعد جريمة، وسقوط العلم منه يعني "الهزيمة"، لذا تفرض السرية على اسم الجندي المكلف بحمل الراية.
وحضرت الأعلام بقوة في أوروبا العصر الوسيط لأغراض هوياتية، فكانت محددا للانتماء الطبقي للنبلاء، وتعبيرا عن معتقدات دينية مذهبية، حسب الكنسية "الكاثوليك، البروتستانت، الأرثوذكس...". إضافة إلى حضورها لدواع عسكرية، حيث استعملت دليلا للتعرف على الملوك والفرسان والأعداء والأحلاف والمحايدين في مناطق الحرب وفترات الهدنة وغير ذلك.
تطور الأمر حديثا، حتى أضحى مجالا للبحث، فدراسة الأعلام تعرف باسم الفيكسيلولوجيا Vexillology وهي اشتقاق من الجذر اللاتيني "فيسيلوم" الذي يعني الراية أو العلم. ودخل المفهوم حيز التداول العام، منتصف خمسينيات القرن الماضي، بفضل ويتني سميث الأكاديمي الأمريكي، أحد الأعضاء المؤسسين للمجلس الدولي لعلم الرايات FIAV عام 1965. تحولت الرابطة في مؤتمرها الثالث إلى اتحاد يرمي، كما جاء في بنود ميثاقه التأسيسي، إلى "إنشاء وتطوير هيئة للمعرفة بالرايات وأنواعها وأشكالها ووظائفها، إضافة إلى النظريات العلمية والمبادئ المبنية على تلك المعرفة".
يحكي علم كل دولة حكايته الخاصة، حيث تنصهر السياسة مع الثقافة والتاريخ لتفرز علم هذه الدولة أو تلك القومية. فعربيا مثلا تحضر أربعة ألوان، الأسود والأبيض والأخضر والأحمر، في أعلام الدول العربية الحديثة. وعلة استدعاء هذه الألوان دون غيرها في التاريخ، حيث يدل كل لون على حقبة عربية/إسلامية، فالأسود كان لون راية الحقبة النبوية والخلفاء الراشدين الكرام، وكذا العصر العباسي، واستخدم الأبيض من قبل الدولة الأموية، وكان الأخضر رمز الدولة الفاطمية، وكان الأحمر علم الخوارج، ومن بعدهم الهاشميون الجدد، ثم الإمبراطورية العثمانية. وقيل إن هذه الألوان اقتبست من بيت شعري لصفي الدين الحلي قال فيه: "بيض صنائعنا سود وقائعنا/ خضر مرابعنا حمر مواضينا".
شكلت أعلام دول مصدر إلهام لدول وكيانات أخرى، على غرار علم مملكة الدنمارك، أحد أقدم الأعلام المستخدمة حاليا، فتاريخه يعود إلى القرن الـ13، فقد استوحت منه دول النرويج والسويد وفنلندا وآيسلندا وجزر فارو وجزر أولاند وجرز شتلاند. وكان علم هولندا الثلاثي الألوان، الأحمر والأبيض والأزرق، الذي ظهر لأول مرة عام 1572، مرجعا لأعلام عديد من الدول التي اعتمدت التوزيع الأفقي للألوان. يسري الأمر ذاته على ألوان العلم الفرنسي المأخذوة من قطعة قماش الملك لويس الـ16، حين كان يلقي خطابا أمام التجمعات العامة، مع دول روسيا وكوستاريكا وهايتي والدومينيكان.
تعدى الأمر مسألة الإلهام نحو تطابق رايات بعض الدول، باستثناء تفاصيل صغيرة تتعلق بالشعار أو الرمز، كما هي الحال بالنسبة إلى علم الهندوراس والسلفادور أو علم الهند مع علم النيجر أو علم الإكوادور مع كولومبيا أو علم المكسيك مع إيطاليا أو علم إندونيسيا مع إمارة موناكو. ويتحول التشابه إلى تماثل في علمي رومانيا مع تشاد. ويعد ترتيب اللونين الأخضر والبرتقالي بجانبي اللون الأبيض في الوسط الفارق بين علمي أيرلندا وساحل العاج.
اختارت دول "تزيين" أعلامها بشعارات أو رموز ثرية ومثيرة إلى جانب الألوان، فحضرت الشمس التي تحمل وجها إنسانيا في علم الأرجنتين، وتعرف بشمس مايو الذهبية، ارتباطا بأحداث أيار (مايو) 1810 للمطالبة باستقلال البلاد، وفي ذلك إشارة إلى "الشمس" في إمبراطورية الإنكا القديمة. وظهر القمر على شكل هلال، لتمييزه عن الشمس، في عديد من الرايات، للتعبير عن الهوية الدينية لبعض الشعوب، كما نجد في أعلام تونس وتركيا وسنغافورة وموريتانيا وأذربيجان وماليزيا. وحضر الصليب بقوة في عديد من أعلام الدول الأوروبية كإنجلترا والسويد والنرويج وسويسرا.
تبقى جمهورية نيبال الديمقراطية الاتحادية، بين الهند والصين، صاحبة أغرب علم في العالم، فلا هو من حيث الشكل بمستطيل ولا بمربع، بل يتكون من مثلثين، وذلك لأن أعلام الديانة الهندوسية مثلثية. ويشير اللون الأحمر إلى زهرة الرودودندرون، وهي زهرة وطنية في نيبال، ومحدد بلون أزرق في إشارة إلى السلام والوئام. أما المثلثان فهما في الأصل يرمزان إلى جبال الهيمالايا، لكنهما الآن يدلان على الهندوسية والبوذية، الديانتين الرئيستين في نيبال، ويحمل المثلث العلوي الأصغر قمرا وهلالا، أما المثلث السفلي فيحمل شمسا.
وراء كل علم قصة، عادة ما تبقى خارج المفكر فيه لدى أهل الدولة، حتى إن كان الأصل، أو تكون حكاية صناعة العلم أول دروس المواطنة بالنسبة إلى الأطفال والناشئة، لا أن يظل الأمر لونا أو ألوانا نستدعيها في لحظات معينة ثم تتوارى سريعا إلى الخلف، في انتظار على أمل مناسبة أخرى.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون