ثقافة وفنون

النفايات .. معرفة مكسورة تعوق التقدم

النفايات .. معرفة مكسورة تعوق التقدم

اشتبك الفن بقضايا البيئة، وانصهرت قوانين الفيزياء في عوالم الأدب.

النفايات .. معرفة مكسورة تعوق التقدم

الفنان جوزيف كورنل في انسجام وتناغم تام مع طبيعة الفن الذي يمارسه.

مهما حاول المؤلف تحري الدقة والضبط عند اختيار عنوان الكتاب، فقلما تسعفه الكلمات المنتقاة في تحقيق الهدف. كان هذا حال جون سكانلان الأكاديمي الاسكتلندي، وهو يضع عنوان "النفايات مدخل إلى الشك والخطأ والعبث" لمؤلفه الصادر عام 2004، المترجم إلى اللغة العربية، بأسلوب شيق وممتع، بقلم السوري محمد زياد كبة، عن هيئة أبو ظبي للساحة والثقافة، كلمة "2017". فالاشتباكات المعرفية للكاتب، على مدار 334 صفحة التي شكلت الفصول الخمسة للكتاب "النفايات والمجاز، النفايات والمعرفة، جماليات النفايات، قضايا النفايات، النفايات والغرائب" أشكل من أن تختصر في ثلاث كلمات، الشك والخطأ والعبث، لذا جاز القول إن العنوان "جنى" على المضمون.
نقيض العنوان البسيط جدا قياسا بنوعية الأفكار ومستوى النقد الوارد في الفصول، امتزجت حقول معرفية في ثنايا الكتاب، فتقاطعت الفلسفة مع التاريخ، واشتبك الفن بقضايا البيئة، وانصهرت قوانين الفيزياء في عوالم الأدب.. فكانت النتيجة طرحا نقديا قويا عن موضوع من مواضيع الظل "النفايات"، حيث نكتشف الوجه الآخر لقصة الوجود والعدم. فالقاعدة أن مآل كل شيء على الكوكب إلى القمامة، "بما في ذلك الإنسان". فالوجود مرهون بالفائدة، وكل شيء موجود طالما يستفاد منه، لكنه لا يلبث أن يتحول إلى نفايات حين تقطف ثماره وتخبو جذوته.
يصحح سكانلان خطأ شائعا مفاده الاعتقاد بأن القمامة نهاية المادة بصفة عامة، والكائنات الحية بصفة خاصة. فهذا قول لا يخلو من قصر، وسنده قانون فيزيائي وكيميائي وضعه أنطوان لافوازييه العالم الفرنسي، في الربع الأخير من القرن الـ18، فلا شيء في هذا العالم يفنى، ولا شيء يولد من لا شيء، كل ما على الأرض يفنى في ظاهره، لكنه يعود بشكل آخر في عملية تدوير، تصنع بواسطتها أشياء جديدة، تخرج إلى الوجود المرة تلو الأخرى.
هكذا إذن تكون النفايات مرحلة انتقال بين وجودين مختلفين، بين ما هو كائن حاليا، وما سيكون مستقبلا. على أساس دورة المادة في الحياة، حيث تنتقل النفايات من حالة عدم التميز إلى حالة التميز، حين تصبح مادة جديدة، يستفاد منها مرة أخرى، كما يمكن لها أن تبوح بأسرار أصحابها، فالبحث في النفايات المنزلية، يكشف الكثير عن حياة أصحابها. أكثر من ذلك، يمكن أن توفر - بحسب المؤلف - تاريخا ثانويا للحياة الحديثة، حيث "تمنحها شروط إنتاجها والوسائل التي تجعلها تختفي عن الأنظار دور البديل الثقيل للشخص، إنه الوجود الطيفي غير المألوف". بذلك يستحق الكتاب وصف "تاريخ ظل" للثقافة الغربية، أي تاريخ التخلص من النفايات.
لغويا، دخلت كلمة النفايات من الفرنسية القديمة إلى اللغة الإنجليزية، بداية القرن الـ15، وكانت تدل على بقايا الطعام، قبل أن تكتسب هذه المعاني الشاملة. فالنفايات بشتى صورها تمثل الطبيعة، بصفتها سلسلة لا تنتهي من الولادة والتحلل المستمرين، ليخلص الباحث إلى أن لغة النفايات هي لغة النهايات، وهي أيضا لغة البدايات، فلا شيء يختفي على الإطلاق، الأشياء والأجسام والأفكار، قد تخرج من الاستعمال، وتصبح عتيقة، وتصير إلى خراب، لكن نواتجها تشكل المادة الأولية لأشياء جديدة.
وفي معرض التحديد دائما، يعقد الأكاديمي المختص في الدراسات الاجتماعية في جامعة جلاسكو في اسكتلندا، مقارنة بين المال والنفايات، باسطا وجه الشبه في كونهما عديمي الشكل، "فبإمكان المال أن يتحول إلى أي شيء، وهذا ما يجعله لا شيء، إنه قمامة جاهزة كي تتخذ شكلا جديدا حين يعاد تدويرها".
يساجل الكاتب في فصل مثير حول مسألة "النفايات والمعرفة"، مؤكدا أن المعرفة تعيد تدوير ذاتها على الدوام، لكنها في الوقت ذاته، وهذا مهم، تتخلص من الفضلات المتبقية من منتجاتها، أي تلك الأجزاء التي لا تمكن إعادة تدويرها. وفي موقف غريب يدعو القراء إلى النظر في "تاريخ الفلسفة الحديثة على أنه تاريخ نفايات، إنه تاريخ التنظيم والترتيب، تاريخ التخلص من الحطام الملقى في أرض العقل، ورميه بعيدا وكنسه"، مع التنبيه إلى أن هذه العملية، أي التنظيف الفكري، تحدث من دون أن يلاحظها أحد. يعزز موقفه هذا بفكرة لجون لوك الفيلسوف الإنجليزي، أوردها في "مقالة عن الفهم الإنساني"، مفادها "حسبه طموحا أن يشتغل أجيرا ينظف الأرض قليلا، ويميط بعض القمامة عن طريق المعرفة".
وفي فصل آخر لا يقل إثارة، ناقش الكاتب "جماليات النفايات"، وذلك عن طريق تحويل أكوام من نفايات جمعت من الشارع أو حاويات القمامة، ثم قدمت أعمالا فنية بأشكال مختلفة، وبذلك نهضت القمامة إلى الحياة من جديد، بعد أن كانت مجرد أشياء انتهت صلاحياتها، وصارت أنقاضا لا فائدة منها. ويبقى اللافت للنظر في هذه الأعمال الغريبة أنها مستمدة بالفعل من الحياة اليومية، من الأشياء التافهة إلى أبعد حدود التفاهة. فموادها في عالم الفائدة العملية، لدى الكبار، هي مجرد تذكارات عقيمة، تعود إلى ماض بعيد ذهب إلى غير رجعة.
وتوقف مطولا عند رموز هذا الفن الحديث "كورنيليا باركر ومارسيل دوشان..." وأعمال البعض منهم، أمثال الفنان جوزيف كورنل المشهور بلوحات ذات عناوين معبرة "ألبوم الرحلة، بلا عنوان، متحف بلا جدران، ميتافيزيقا الزوال، قلب المتاهة..." في انسجام وتناغم تام مع طبيعة الفن الذي يمارسه.
لا يفوت الكاتب الفرصة كلما بدت له مناسبة، دون الزج بالقارئ في نقاش فلسفي إشكالي، يأخذه بعيدا عن الانطباع الأولي عن كتاب بعنوان "النفايات"، فيذكره ببعض تعريفات الفعل "يستهلك"، التي تشمل "يدمر" أو "ينفق"... وهي تفيد إبادة ما هو جيد وقيم. ويستغرق في علم النفايات garbology، قصد بناء استنتاج مفاده أن السلع المنتجة، من وجهة نظر هذا العلم، ليست سوى نفايات في حالة انتظار. ويستعين هنا باقتباس من نص أدبي جاء على لسان بطله "أنا وماريان لم نر في المنتجات سوى نفايات، حتى وهي تلمع على رفوف المتجر... وكنا نسأل عن الحس بالمسؤولية عند أكل مادة غذائية معينة، إذا كان غلافها الذي لفت به سيعيش مليون عام".
يحاول سكانلان أن يثبت - تصريحا أو تلميحا - أن النفايات تمثل - في مسار الحداثة الغربية - "عالم الأشياء الظلي، عالم أو حلم صنعته كل أنواع التوقعات الخاصة بإنتاج السلع واستهلاكها". لذا بات من المستحيل تصور المدينة، بدون الحضور الطيفي للشيء الذي يصبح لا شيء - القمامة والأوساخ.
يستعين لإثبات ذلك بالاقتباس من كتاب "مخلفات الحضارة"، حيث يرسم لنا المؤلف صورة بيئة تتزايد فيها الأوساخ والنفايات، وتمتد حتى منتصف القرن الـ19، وذكر أن تضخم الثروة التي أتت بالناس إلى المدن "جلب معه مزيدا من القمامة، مع ترتيبات للتخلص منها لا تزيد كفاءة عن تلك التي تستخدم في مدينة من القرون الوسطى". وهكذا تكون النفايات هي تلك المعرفة المكسورة، التي تبقى بعد التقدم لتعوقه.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون