ثقافة وفنون

هشام جعيط .. الوفاء لأقانيم الفكر والكتابة والهامش

هشام جعيط .. الوفاء لأقانيم الفكر والكتابة والهامش

هشام جعيط

هشام جعيط .. الوفاء لأقانيم الفكر والكتابة والهامش

هشام جعيط .. الوفاء لأقانيم الفكر والكتابة والهامش

غادرنا قبل أيام هشام جعيط المفكر والمؤرخ التونسي، الذي نجح في أن يجعل من التاريخ مادة فكرية جدلية، وليس مادة إخبارية مملة، وكأنه على منهج ابن خلدون في اعتبار "ظاهر التاريخ لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق". واختار التاريخ اختصاصا، حين كان طالبا في خمسينيات القرن الماضي في باريس، وهو المفتون أكثر بحقول معرفية أخرى، مثل الفلسفة والأدب واللغة، لكونه "يعد التاريخ البحر الذي تصب فيه كل الأنهار". وقرر مزاحمة الغربيين في التاريخ الإسلامي حين رآه مادة اختطفوها، وقولوها ما ليس فيها.
انطلقت مسيرة الراحل عام 1974 بإصداره كتاب "الشخصية العربية والمصير الإسلامي"، المترجم إلى الفرنسية بعد عشرة أعوام، وتوقفت مع آخر أعماله عام 2021، الذي حمل عنوان "التفكير في التاريخ - التفكير في الدين". وبينهما عناوين متعددة، تشكل في مجموعها حلقات مشروع متكامل، لا يمكن فصل حلقاته التي يتمم بعضها بعضا، حيث يدور نسقها العام حول إشكالية الهوية التاريخية للأمة العربية الإسلامية.
كانت أعمال الراحل محل جدل كتاب تلو الآخر، فمن "الشخصية العربية" نحو "صدام الثقافة والحداثة" (1980)، فأطروحته الشهيرة حول "نشأة المدينة العربية الإسلامية" (1986)، ثم الكتاب الحدث التي هز العالمين العربي والإسلامي "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" (1989)، متبوعا بكتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" (2000)، وصولا إلى ثلاثيته في السيرة النبوية ("الوحي والقرآن والنبوة"، و"تاريخية الدعوة المحمدية في مكة"، و"مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام".
لا تزال أطروحة جعيط حول نشأة "المدينة العربية" محط نقاش بين أهل الاختصاص، بتوليد الراحل أسئلة جديدة، بعيدا عن حدود "المدينة الشرقية" التي قال فيها وعنها الأجانب الشيء الكثير، خاصة بعد اجتراح المؤرخ لأفق بحثي جديد، فالمدينة لدى الرجل ليست صراعا بين البادية والتحضر، بل هي نظرية في تعددية التحضر العمراني والإنساني. فتجربة "دولة المدينة" كانت أساس هذه النظرية، وأسهمت في بلورة رؤيته بشأن أسئلة الحضارة العربية. فالحضارات، بحسب جعيط، لا تتصارع بل تتداخل وتنتقل مراكزها في ازدهارها أو خفوتها. وعليه لا يشكل حضور الحضارة الغربية في المغرب والمشارق "صدمة" لديه.
سرعان ما كشف ابن تونس تهافت ما كتبه المستشرقون المشتغلون على هذه الحقبة من التاريخ الإسلامي، فدراساتهم جاءت هزيلة، لذا عد الرجل من المؤسسين الأوائل في دراسات هذه الفترة، حيث قطع مع مناهج هؤلاء، وفتح أفقا معرفيا مغايرا، استطاع به الراحل الخروج من الفتنة بالدولة.
أدى الاشتغال التفكيكي على "الإسلام المبكر"، خصوصا في كتاب "الفتنة"، إلى الاشتباك مع الإشكاليات الكبرى، الذي يوصلنا إلى الواقع المعاصر، وما يشوبه من تأخر حضاري وانتشار العنف، بنوعيه الفكري والمادي. وكان ذلك بمنزلة إعلان عن نهاية الاستشراق، وعودة البحث في التاريخ الإسلامي إلى الشرقيين. وعلق الراحل على ذلك بقوله "يبدو أن هناك من انزعج من أن يدرس عربي مسلم الدين الإسلامي بأدوات علمية، وأن يعود إلى أسس الحضارة الإسلامية ويقدم فيها مقولاته، كما أنني انتقدت البعض منهم".
يذكر أن الكتاب التأسيسي للمؤرخ التونسي تزامن مع كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" لعبدالله العروي المؤرخ المغربي، مع اختلاف بيِّن في الطرحين، فالعروي يتبنى نقدا جذريا لتجارب النهوض العربي الحديث، من منظور ماركسي تاريخاني. بينما ينحو جعيط منحى قراءة الحركات الإصلاحية العربية والفكر القومي، من منطلق متعاطف مع نغمة نقدية رصينة.
نقيض أطروحة العروي، لم تلق كتابات الراحل الصدى الذي تستحقه، سواء مع أو ضد، وكأنما "صدر قرار بالتآمر ضده بالصمت - بتعبير محمد الحداد - هذا الصمت الذي تبدو نتائجه أشد وأبقى في قتل التفكير". وهذا عائد في الأساس إلى اختيار الرجل التموقع في صف التيار النقدي في الفكر العربي، إذ لم يسع إلى فرض لون أيديولوجي على التاريخ، إنما انطلق من مكتسبات العلوم الإنسانية واستعملها استعمالا قائما على الندية والاجتهاد، في محاولة لدفع الثقافة السائدة إلى المساءلة.
وكان لموقفه السياسي من الأنظمة المتعاقبة على تونس، بورقية، ثم بن علي، نصيب فيما لحقه من حصار، فدفع ثمن مواقفه الجريئة برفض التمديد له للتدريس في الجامعة، بعد بلوغه سن الـ60، فانزوى في محراب البحث مجسدا بشكل عملي مقولة تنبئية، وردت في كتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" حين قال "أشعر أنني مهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح (...) لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية، هذه الدولة تقمعني، وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي، المزيف والجاهل".
بقي الراحل بعيدا عن الأضواء حين قامت الثورة التونسية، وظل محافظا على مسافة أمان مما يسمى "الربيع العربي"، وما يجري في المشهد التونسي. وحتى عند اختيار اسمه لرئاسة بيت الحكمة "المجمع التونسي للآداب والفنون والعلوم" (2012 -2015) تردد كثيرا، مخافة إلهاء المنصب له عن محراب المعرفة، وطقوس التأليف والكتابة. وسبق له أن ترفع عن المناصب السياسية، فقد رفض منصبا وزاريا؛ جاء نتيجة نقاش عميق مع الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة في الستينيات، مفضلا الوفاء للبحث والتفكير بدلا عن المسؤولية والسياسة.
كان جعيط طيلة مسار حياته من الأوفياء للظل، والابتعاد عن الفضاء العام المسكون بالفوضى واللا معني، فقناعة الراحل المطلقة عبر عنها في أكثر من كتاب بقوله "أرى أننا نعيش أزمة مخاض. العالم الإسلامي يركض وراء إعادة تأكيد موقعه في العالم المعاصر، وداخل هذا التأكيد ثمة متناقضات فكرية وسياسية وثقافية، فهو في "أزمة تولُّد" لا نعرف ماذا سيحدث من ورائها".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون