ثقافة وفنون

الصحافة الفنية .. تقديم الرأي الشخصي في ثوب النقد

الصحافة الفنية .. تقديم الرأي الشخصي في ثوب النقد

الصفحات ملأى بالنقاد الذين يستند بعضهم إلى آراء غير علمية في نقدهم.

الصحافة الفنية .. تقديم الرأي الشخصي في ثوب النقد

"النقد الفني" لا يجنح إلى المدح أو الذم والهجاء، بل يضع هذه الأعمال تحت ضوء هادئ وفاحص.

بات الخلط بين النقد الفني والرأي الشخصي سمة متجذرة لدى بعض الإعلاميين والمتابعين للفنون على اتساع مفهومها، ولا سيما الدراما والموسيقى والسينما، وحول المعايير التي تندرج تحت اسم النقد، وتلك التي تخضع لذائقة شخصية، وبدورها تسلط "الاقتصادية" الضوء على بعض المفاهيم والمعايير التي صممها نقاد وأكاديميون حول النقد الفني ومدارسه.

سيطرة الرأي المسبق

الجدل القائم حول أغنية ما مثلا والرأي الفني الذي تشكل إزاءها، أصبح بالإمكان أن نطلق عليه "حالة" تمكن دراستها، ومن خلالها تشخيص ملامح من النقد الفني، فقد يشعر المتلقي أو الجمهور بأن هناك رأيا مسبقا قد تكون لدى صاحبه تجاه الفنان، اكتسبه منذ أعوام ويمشي على خطاه، وكان ذلك جليا من خلال الآراء الصحافية السابقة التي تكون حول فنان بذاته، ولم تتطرق إلى معايير فنية معروفة، إنما قسمت الأصوات بين تصنيفين لا ثالث لهما، جميلة وأخرى قبيحة، أو التي تحترم ذائقة الناس وضدها، وآراء مثيرة للجدل مثل نعت فنانة أو فنان ما بأنه لا يستحق لقبه الفني، أو وصفه بتقديم الأغاني السيئة كعادته، وغيرها من الصفات التي قد تصل إلى حد الرمي بالاتهامات والتشويه، وربما تنتهي في أروقة السلك القضائي.
وكان جوليوس بورتنوي الناقد الأمريكي تناول هذه الظاهرة من ظواهر النقد الفني في كتابه "الفيلسوف وفن الموسيقى"، حينما قال "إن هناك نوعا من الناس يؤكد أنه لا يملك أي فلسفة له في الحياة أو في الموسيقى، فمثلا يعلق على أداء ممتاز لمقطوعة موسيقية بقوله إنه يحبها ولكن لا يهمه أن يعرف السبب، إنما يعبر عن فلسفة بدائية للموسيقى بلا أي استيعاب عقلي، وهو نوع بدائي إلى أقصى حد، ينطوي على الحط من قدرات الإنسان العقلية على التأمل الباطني والتفكير الناضج".
وفي السياق ذاته لكن بمنحى آخر، تعج صفحات التواصل الاجتماعي بمحللي الأفلام والمسلسلات العربية والعالمية، إلا أن هذه الصفحات ملأى بالنقاد الذين يستند بعضهم إلى آراء غير علمية في نقدهم، تحكمهم الأهواء الذاتية، وتؤثر فيهم أحيانا المجاملات الأدبية بين الفنان والناقد والعلاقة الشخصية بين الطرفين، أو الصورة النمطية التي انطبعت في أذهانهم حول حياة الفنان وأخباره الصحافية، فيفقد الناقد حينها استقلاليته العلمية، ولطالما سيطر بعض هؤلاء المدونين بأحكامهم النقدية على آراء الأغلبية، مستفيدين ممن ينقلون تدويناتهم النقدية القصيرة من صفحة إلى أخرى، وعن حسن نية أو سوئها، يتكون إثرها رأي عام لدى شريحة كبيرة من الجمهور بناء على انطباعات خاطئة ترسخت لديهم، حتى قبل أن يشاهدوا العمل الأصلي، ويسبروا أغواره بعين فاحصة متعمقة ومتذوقة.
ولعل ذلك تماما ما حدث مع الراحل نجيب محفوظ، أديب نوبل، ففي عام 1995 طعنه شاب في عنقه، بعد أن قرر اغتياله بمساعدة صديقه، بسبب رواية "أولاد حارتنا"، والمثير للاستغراب والدهشة أن المتهمين لم يقرأ أي منهما لمحفوظ حرفا واحدا، بل إن أحدهما كان أميا، واعتمدا على اللغط الحاصل إزاء الرواية، فأعدما في نهاية المطاف.

يكشف مواطن القبح والجمال

يحمل الناقد الفني على عاتقه تشكيل ثقافة المجتمع، وتنمية وعيه الفني، كاشفا عن مواطن القبح والجمال، يرتكز على قاعدة فنية في آرائه النقدية، ويشير إلى مكمن الخلل والخطأ، تاركا للجمهور الاستنتاجات وتكوين الرأي الفني.
ففي النقد الفني للدراما والمسرح مثلا، تجتمع عناصر الأداء، وشكل الممثل وشخصيته ومدى إقناعه للمشاهد في تقمصه للشخصية، والأسلوب الأدائي وحركة الجسد التعبيرية، وابتعاده عن الإلقاء والمبالغة، وهو فن يحتاج الإلمام بعناصره إلى ثقافة واسعة بصرية وعملية، يخرج كثمرة للذوق والتجربة الشخصية، ويتعرض لسمات محددة أو عناصر في الممثل أو العمل الفني.
فجسده وصوته وحركته لها دور في الحكم على مهارة الممثل، فهناك الممثل القادر على إيصال الفكرة دون أن ينطق بكلمة، لكن أجزاءه بحركاتها الجمالية كفيلة بإيصال الهدف المنشود، والإفراط فيها يضعف الأداء، مثلما يرى الأستاذ مصطفى داخل الشحماني، في كتابه "الإعلام الفني".
ويقول الكاتب "إنه لا يصح أن يخضع الإعلام الفني لأهواء تلقائية تعكس مجرد أمزجة كاتبيها، أو لأغراض غير نظيفة تشوبها الشبهات، أو عملية خفية هدفها التكتيكي صياغة ملونة أو مشوهة أو تابعة لا استقامة فيها ولا استقلال، وهنا لا بد من وجود المصداقية والشفافية والتذوق الفني الإنساني.

تحت ضوء هادئ

يعتمد النقد الفني الحديث على التحليل المنهجي للأعمال الفنية، فهو كما يصفه الدكتور نبيل راغب في كتابه الممتع "النقد الفني" لا يجنح إلى المدح أو الذم والهجاء، بل يضع هذه الأعمال تحت ضوء هادئ وفاحص بعيدا عن الحماس أو التعصب أو التحيز، كما أن النقد لا يصدر حكما فاصلا لا يقبل النقض على العمل الفني، بقدر ما يمنح الفرصة للمتلقي أو المتذوق لكي يصدر مثل هذا الحكم، ويشارك الناقد في مهمته المثيرة للفكر والوجدان.
يطول الحديث عن معايير النقد الفني وعناصره، ولكل فن من فنون السينما والمسرح والشعر والموسيقى وغيرها من الفنون مدارس كلاسيكية وأخرى حديثة، تناولتها مئات الكتب والمراجع العلمية، دون أن تفصل في حديثها عن الشروط الواجب توافرها في الناقد.
فمن تلك الشروط أن يمارس قدرته العقلية وإدراكه للتنسيق الجمالي، ولماحيته في إلقاء الأضواء الموضوعية على محاسن ومساوئ العمل، وتحليه بالثقافة الموسوعية والبصيرة النافذة والحس المرهف والوعي العميق، كما يتحتم على الناقد أن يلغي كل معلوماته عن الحياة الشخصية للفنان، حتى يستطيع الحكم الموضوعي على العمل الفني.
فيما يميل نقاد مثل الأمريكي روبرت روزنبلوم والفرنسي رينيه ريكارد إلى اعتقادهم أن الكاتب يفترض أن يكتب عن حب للعمل الفني، أي ألا يكتب عن الأعمال التي لا تعجبه، بل عن تلك الأعمال التي يفضلها عن غيرها، وهذا في اعتقادهم الدور الرئيس للناقد المتحمس للفن، ومن واجبه أن يشعل الحماس في الفنانين الذين ألهموه بأعمالهم الفنية التي قدمت تجربة جديدة تستحق التقدير أو الكتابة عنها.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون