ثقافة وفنون

كاتب: البشرية تعيش لحظاتها الأخيرة من «التعب الكوني»

كاتب: البشرية تعيش لحظاتها الأخيرة من «التعب الكوني»

الكاتب النمساوي بيتر هاندكه.

كاتب: البشرية تعيش لحظاتها الأخيرة من «التعب الكوني»

إيقاع الحياة المتسارع تسبّب في ما أصبح يعرف اليوم بـ "الاحتراق النفسي".

التعب أو الإرهاق شعور لم يسلم منه أحد، فهذا الإحساس رديف التجربة الإنسانية في الحياة. لكن البحث في تاريخ هذا الإحساس يكشف عن صورة أخرى مغايرة للتمثل السائد عنه، ويبقي أغرب الأشياء خضوع التعب بدوره لقانون التطور، مسايرا بذلك مناحي الحياة الإنسانية كافة. فالإرهاق في الماضي، توصيفا وأسبابا، غير الإرهاق في الحاضر الذي يبدو أنه التهم كل شيء في حياتنا.
حظي التعب كموضوع في الحقبة المعاصرة، بمحاولات بحثية من زوايا نظر مختلفة، اشتبك فيها الذاتي بالموضوعي بشكل كبير، على غرار كتيب "عن التعب" (1989) لبيتر هاندكه الكاتب النمساوي، المليء بالانطباعات، ففيه يتحدث عن أن البشرية تعيش لحظاتها الأخيرة من التعب الكوني، الذي ستضطر في النهاية إلى أن تتصالح معه. قبل أن يتناقض مع نفسه، في الكتاب ذاته، بإصراره على تمييز التعب طبقيا، حيث يجزم بأنه لم يصادف في حياته أي صورة تعكس تعب الطبقة المتوسطة، "إذ يبدو لي أن التعب لا ينطبق عليهم، فهم يعدونه سلوكا سيئا، مثل السير بقدمين حافيتين، كما أنهم يعجزون عن استحضار صور التعب، لأن الأنشطة التي يمارسونها لا تمت له بصلة، أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه هو أن يبدو عليهم التعب، لكن من منا ليس كذلك؟".
حديثا، حاولت آنا كاثرينا شافنر الأكاديمية البريطانية أستاذة التاريخ الثقافي مقاربة الموضوع بمداخل معرفية متعددة، التاريخ الاجتماعي وعلم النفس والاقتصاد والأديان... في كتاب طويل نسبيا بأزيد من 300 صفحة، حمل عنوان "الإرهاق: تاريخ" (2016). ويبقى مؤلف جورج فيجاريلو المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي "تاريخ الإرهاق: من العصور الوسطى إلى اليوم" (2020) أقدر المصنفات على تقديم القصة الكاملة عن الموضوع، بحكم التخصص الدقيق للكاتب في سوسيولوجيا وتاريخ الحساسيات، فقد أصدر عديدا من الكتب عن مواضيع عادة ما لا ترصدها العلوم الاجتماعية، باعتبارها ضمن اللا مفكر، فكتب عن "تاريخ السمنة: تحولات الدهون" (2010)، و"تاريخ الرجولة" (2011)، و"تاريخ الجسد" (2011)، و"الشعور بالذات" (2014)، و"تاريخ العواطف" (2016).
ينبه فيجاريلو إلى أن البحث في الموضوع يستدعي استحضار تمثلات الأفراد للجسد عبر الزمن، فقد تحول التعب من حالة مزاجية تؤثر في الجسم عضويا من منظور القدماء، نحو نظرة شمولية للجسم، على أساس التطور الطبي، قوامها مزيج من الألياف والشحنات والألياف، وما التعب سوى نقص في التحفيز تمكن الاستعاضة عنه بالمنبهات والمنشطات.
ارتبط الإرهاق في العصور الغابرة بالمقاتل الذي يدافع عن المدينة أو إرهاق نبيل، وعد تعب رجل الدين - الذي يشق طريقه بين الجبال للوصول إلى الخلوة، والعمل على "تخليص" الجميع بمعاناته من أخطائهم - عبادة. في حين قوبل تعب المزارع في الحقول بنوع من الازدراء. لكن تطور المجتمع غير تلك النظرة، مع ظهور أشكال جديدة للتعب، من قبيل إرهاق السياسيين وما تسببه المدينة أو الحرف التي تعد مهمة.
ونشأت ظاهرة الإرهاق الجماعي مع ولادة المجتمع الصناعي، فظهرت مع نهاية القرن الـ19، بعد أن كان الإرهاق لفترة طويلة مجزأ ومتباينا حسب الأشخاص أو الدوائر، ليصبح في الزمن الحديث شعورا موحدا ومنتشرا. خصوصا، بعدما أضحى إرهاق العمال موضوع تقييم ومحاولة تبرير، ما فرض التفكير بجدية في التعب، بالبحث عن وسائل علاجه والتغلب عليه، وحتى الحديث عن إسهام الإقرار بمفهوم التعب في تشكيل حياتنا، من خلال علاقاتنا بالجهد، وتنظيم العمل. ومع بداية القرن الـ20، بدأت محاولات التغلب على هذا الإرهاق، ومقاومة التعب والإجهاد، من خلال أنشطة جديدة متمثلة في الرياضة والاسترخاء والاستجمام.
يؤكد الكاتب أن الشعور بالتعب موجود دائما. لكن هذا الإحساس تعرض لكثير من التغييرات، "ففي الأزمنة السابقة، كان التعب جسديا: إنه تعب المسافر أو المقاتل أو رجل الدين، ثم - وبشكل غير محسوس - برز مظهر تكون فيه الذات محط استجواب. وذلك في سياق زيادة الوعي بأنفسنا، وهذا أوجد شكلا جديدا من التعب".
شهد العصر الحالي امتدادا غير مسبوق للتعب، حتى بدت إمكانية كبحه أو حتى تطويقه، صعبة للغاية. فقد بدا التعب ممتدا من مكان العمل إلى المنزل، ومن أوقات الفراغ إلى السلوك اليومي. وتعددت أشكاله مع مرور الوقت، بقدر تعدد التفسيرات والتبريرات، متخذة مجموعة من المظاهر التي تعبر عن الكسل والإنهاك والإجهاد والإرهاق والألم... وقد يزداد الأمر تفاقما، لدرجة الحديث في عالم الطب عن "متلازمة التعب المزمن".
وهكذا بدأت تظهر كلمات جديدة تشير إلى الانتقال من الإرهاق الجسدي نحو التأثير في العقل والروح، وهو ما يعرف حاليا بالتعب النفسي. يفسر فيجاريلو ما نواجه من إجهاد من حولنا بأنه مجرد نتيجة لإيقاع الحياة المتسارع، ويرى أن هذه السرعة تسببت فيما أصبح يعرف اليوم بـ"الاحتراق النفسي"، وهي مفردة عصبية أكثر من جسدية، وكذلك تعبير "الوهن العصبي".
هنا نود أن نشير إلى تحذير الأكاديمي جوش كوهين من أن "الإرهاق قد يصل بنا إلى أكثر من ذلك بكثير، إذ إنه لو كان مجرد تعب، فإن القليل من الراحة من شأنه أن يعالجه. لكن ما إن يصل الإرهاق إلى مراحله النهائية، فإن أسوأ شيء قد ينتج عنه شعورنا بأنه لا يمكن فعل شيء". وحسب كوهين، فإن "من أكثر أسباب الإرهاق شيوعا القلق، بتفكيرنا أننا لا نفعل ما يكفي، ونتيجة لذلك نرهق أنفسنا كثيرا، ومع ذلك لا نشعر بالكفاية".
تعد اليابان المثال الأبرز لهذا الأمر مع ظاهرة "كاروشي"، المعروفة في الصين باسم "جولاوسي"، و"جواروزا" في كوريا الجنوبية.. وكلها تسميات للموت المفاجئ الناتج عن العمل لفترات طويلة تحت ضغوط هائلة، نتيجة حدوث نوبات قلبية أو سكتات دماغية أو اكتئاب يعزز من الرغبة في الانتحار.
تعود البدايات الأولى للظاهرة هناك إلى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ففي عام 1969 توفي موظف، كان يعمل في خدمة النشر في إحدى الجرائد اليابانية، فجأة عن عمر يناهز 29 عاما، نتيجة كثرة ضغوط العمل التي أدت إلى وفاته بأزمة قلبية، مسجلا بذلك اسمه في قائمة أول ضحايا "كاروشي". تذكر إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2019، أن اليابان لديها أقصر متوسط نوم في العالم، بمجموع 442 دقيقة يوميا، ما يعادل زهاء 7.3 ساعة في الليلة، مقارنة بنحو 528 دقيقة في الولايات المتحدة، أي 8.8 ساعة.
يؤدي المشي لساعات طويلة دون راحة أو قضاء أيام عديدة بلا نوم أو الاستغراق الممعن في التفكير إلى بلوغ مرحلة الإرهاق، ما يمثل علامة على محدودية الكائن البشري، فنحن كائنات متعبة، لكن هذا التعب، وكما يقول فيجاريلو، لم يعد تعبا جسديا يغزو العقل إلى حد مطاردته، إنما تعب نفسي يغزو الجسم إلى درجة تحطيمه.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون