ثقافة وفنون

إبادة الكتب .. سلاح يهدد الكلمة والذاكرة الفلسطينية

إبادة الكتب .. سلاح يهدد الكلمة والذاكرة الفلسطينية

لماذا تقصف المكتبات وتحرق بطريقة منهجية؟

إبادة الكتب .. سلاح يهدد الكلمة والذاكرة الفلسطينية

سمير منصور: "أربعون عاماً من حياتي دمّرت في أقل من ثانية"

تعيد أحداث هذه الأيام إلينا همجية المغول وحرقهم مكتبات بغداد ومكتبة بيت الحكمة، أعظم مكتبات العالم القديم، إذ ألقى جنود هولاكو بملايين الكتب في نهر دجلة وأحرقوا أعدادا مهولة منها، في خسارة فادحة للتاريخ والثقافة العربية والإسلامية.
واليوم، يجري تمثيل الجريمة مرة أخرى بأسلحة العصر، فأصيب العالم بالحزن والذهول، بعد أن استهدف الاحتلال الإسرائيلي بقصفه مكتبات غزة، مدمرا عددا من الكنوز الثقافية، في تهديد واضح للذاكرة الفلسطينية.

الكتاب ضحية الحروب

لطالما كانت المكتبات ضحية الكوارث والحروب والغزاة، ففي الإسكندرية احترقت مكتبتها الشهيرة، حينما سطا الرومان على مصر نهاية القرن الأول قبل الميلاد، فأراد يوليوس قيصر أن يدمر الأسطول المعادي في الميناء، فدمره وانتقلت نيرانه إلى المكتبة.
وفي مثال ليس ببعيد، تؤكد زيجرد هونكه المستشرقة الألمانية في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" أن خسارة العرب من الكتب بعدما غادروا الأندلس لا يمكن وصفها، حيث تقول "وهكذا حرقت يد التعصب مليونا وخمسة آلاف كتاب، هي جهود العرب في الأندلس وثمرة نهضتهم في ثمانية قرون".
وقبل نحو 800 عام، وأثناء الحروب الصليبية، دمرت مكتبة القسطنطينية في عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، أكبر مكتبة في العالم وقتئذ، وصف بعض تفاصيلها كتاب بعنوان "كتب تحترق" للفرنسي لوسيان بولاسترون، وتضمن توثيقا لحوادث كثيرة من حرق المكتبات الكبرى وتدميرها عبر التاريخ.
ويرى أن السر في تدمير المكتبات يكمن في عدم إمكانية السيطرة على الشعب المتعلم المثقف، فالمكتبات ضحية سهلة، تستهدف كغيرها من عناصر البنية التحتية لأي مدينة في العالم، مثلما استهدف الصرب مكتبات البوسنة، إضافة إلى ما خسرته ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ فقدوا ما يراوح بين ثلث ونصف كتبهم أثناء الحرب، ومصادرة نحو 11 مليون كتاب، حملت إلى الاتحاد السوفياتي بوصفها غنائم حرب، وفقد اليابانيون أيضا نصف كتبهم، وفي المقابل ما فعله النازيون وغيرهم في مكتبات الآخرين كان مروعا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

100 ألف كتاب صارت رمادا

قبل أكثر من أسبوع، أغارت الطائرات على مكتبة سمير منصور الشهيرة في قطاع غزة، فحولت مائة ألف كتاب إلى رماد، في قصة مؤلمة، ذكر بعض ملامحها لوكالات الأنباء العالمية، ومنها الفرنسية، حينما عبر عن حزنه بقوله "40 عاما من حياتي دمرت في أقل من ثانية"، يقولها سمير منصور وهو يقف يتأمل ما تبقى من المكتبة التي لم تعد سوى كراسي بلاستيكية محطمة، وأوراق متناثرة، إضافة إلى كتل أسمنتية.
ويذكر أن الكتب الأكثر مبيعا لديه إضافة إلى نسخ من القرآن الكريم، هي كتب إرشادية لتعلم اللغات الأجنبية، وكتب الأطفال، وروايات عالمية مثل "الإخوة كارامازوف" لفيودور ديستوفسكي الروائي الروسي الشهير. ويوضح سمير "لا تربطني أي علاقة بأي جماعة مسلحة أو حزب سياسي، هذا هجوم على الثقافة، عشت انتفاضتين وثلاث حروب ضد قطاع غزة، لكن الأمر لم يحدث لي من قبل، لم تدمر مكتبتي في السابق".
في صفحة "المكتبة" على "فيسبوك"، كتب صاحبها "لن ننسى أن لدينا أصدقاء ما زالوا تحت الأنقاض! لقد فقدنا شكسبير، جي كي لورينج، جين أوستن، جورج إليوت، جوروج أورويل، وغيرهم كثيرون تحت الأنقاض"!
أغلقت مكتبة سمير منصور بالقوة، قوة تحارب جيلا يحمل الكتاب، ويضيف سمير في منشور آخر "30 عاما من العمل الدؤوب والجهد المتواصل، ركز فيها على حلمه بإنشاء مكتبة ضخمة توفر الكتب القيمة والموسوعات العلمية والثقافية لأبناء قطاع غزة، وبمرور الأعوام كان الحلم يكبر، فأنشأ دار نشر تتبنى إصدار شهادة ميلاد لمؤلفات الكتاب في جميع المجالات، حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي ودمر بدون رحمة كل ما تم بناؤه، القصف والنيران التهما المكتبة ولم يبق منها شيء. لكن طالما العقول حية فإن الحلم لن يموت، وبدعمكم ومساندتكم لنا سنعاود بنائها أفضل مما كانت عليه".
كما تسبب القصف الإسرائيلي أيضا في تدمير مكتبتين مهمتين في غزة، هما "النهضة" و"اقرأ"، اللتان لهما جمهور كبير من طلاب الجامعات والمثقفين والأدباء.
وفي مبادرة ثقافية، دعا اتحاد الناشرين المصريين جميع أعضائه إلى إهداء كمية من إصداراتهم لشحنها إلى مكتبة سمير منصور، ليتسنى للمكتبة استئناف ومزاولة نشاطها، حيث سيتولى الاتحاد عملية الشحن والتسليم إلى المكتبة الفلسطينية المنكوبة.

لماذا تقصف؟

يخلف كل هذا الدمار الثقافي سؤالا جوهريا: لماذا تقصف المكتبات وتحرق بطريقة منهجية؟
في كتاب "إبادة الكتب"، للألمانية ربيكا نوث، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، تقول "إن المكتبات تكون أحيانا هي الحصون الأساسية ضد الاندثار الثقافي، وتدمير هذه المكتبات آلية يسعى عن طريقها نظام سياسي ما إلى إضفاء شرعية على هيمنتهم على أقليات متنافسة، أو تأكيد مزاعم بأحقيتهم في إقليم أو موارد، وقد يسعى أيضا إلى تدمير أي سجلات أو مدونات يمكن أن تشكل تهديدا لموقفهم".
وقد ينطوي تدمير مكتبة مهمة أو منظومة مكتبات كاملة على رغبة المعتدي في النيل من مكانة العدو وحيوية حضارته، وإضعاف هويته الثقافية، فالكتاب، بوصفه وسيطا، يحفظ المعرفة المنتجة بطريقة منظمة يسهل استرجاعها. والمكتبة، بدورها، تنظم المعرفة المتراكمة بطريقة مؤسسية، حيث تؤدي المكتبات عددا من الوظائف، منها: حفظ المعلومات التي تشكل أساس عمل الحكومة والاقتصاد واستمرار الهوية القومية والاثنية، ودعم الأنظمة والعقائد والنماذج الإدراكية والأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية والدينية، ونشر المعلومات وتدعيم التعليم والنمو الفكري والتقدم الاجتماعي، ودعم الثقافة الرفيعة.
وفي توصيف لأهمية الكتب والمكتبات للشعوب، يصف لنا جون ميلتون الشاعر الإنجليزي الكتب بأنها "ليست جمادات لا حياة فيها، بل هي وعاء لقوة حياة كامنة"، ويقول ميلتون في موضع آخر يلخص مجمل القضية "قتل كتاب أشبه ما يكون بقتل إنسان، بل إن من يقتل إنسانا يقتل مخلوقا عاقلا، أما من يدمر كتابا نافعا، فهو إنما يقتل العقل نفسه".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون